بين العلمين الشيخ الصدوق و الشيخ المفيد

اشارة

سرشناسه:صافي گلپايگاني، لطف الله، 1298 -

عنوان و نام پديدآور:بين العلمين الشيخ الصدوق والشيخ المفيد/ ترجمه لطف الله الصافي؛ ترجمه محمدرضا آل صادق.

مشخصات نشر:قم: كنگره جهاني هزاره شيخ مفيد (ره)، 1314ق.= [1372].

مشخصات ظاهري:[59] ص.

فروست:المقالات والرسالات؛ 18.

وضعيت فهرست نويسي:فهرست نويسي توصيفي

يادداشت:عربي.

يادداشت:عنوان ديگر: المقالات والرسالات = مجموعه مقالات كنگره شيخ مفيد(ره).

يادداشت:كتابنامه به صورت زيرنويس

عنوان ديگر:المقالات والرسالات = مجموعه مقالات كنگره شيخ مفيد(ره).

شناسه افزوده:آل صادق، محمدرضا، مترجم

شناسه افزوده:كنگره جهاني هزاره شيخ مفيد ( 1372 : قم )

شماره كتابشناسي ملي:129527

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد وآله الطاهرين

لاريب في أن للاعتقاد الصحيح أو الفاسد تأثيراً كبيراً في تقدّم الإنسان ورقيه وكماله وسعادته، وبناء شخصيته في الدنيا والآخرة، أو انحطاطه وتأخره فيهما. فالعقيدة هي التي تدفع الإنسان إلى العمل والنشاط والتضحية والإيثار، والعقيدة هي التي تسوق إلى النهضة والثورة والمقاومة والثبات في الجهاد والحرب، وهي من وراء السلام والإعمار أو الدمار.

وإن مظاهر التمدن والحضارة التي تبدو في صور مختلفة كلها ناشئة عن العقيدة.

فالمسجد تبنيه العقيدة، ومعبد الأصنام ترعاه العقيدة أيضاً، ومراحل النموّ السياسي والفكري والاجتماعي والاقتصادي في كل أُمةٍ أو قوم إنما ترتبط بعقيدتهم.

والمحور في تبليغ الأنبياء والرسل هدايتهم العقيدة، العقيدة بالتوحيد وسائر الاعتقادات النزيهة عن الخرافات.

وقد أوضح نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه و آله للبشرية بكلمة طيبةٍ وهي:

ص: 4

لاإله إلا اللّه عقيدة التوحيد، ونفي الشرك وجعلها أساس دعوته وتبليغه، وإن قسماً مهمّاً من آيات القرآن المجيد يدعو إلى الاعتقاد الصحيح والعقائد الحقة.

والمسائل الأخلاقية والعبادية والعملية تعدّ في المرحلة الثانية والثالثة من مراحل هداية الأنبياء وتعاليمهم للبشر (بعد مرحلة التوحيد)، والفقه الأكبر الذي هو حسن المعرفة باللّه تعالى، الشامل لجميع المسائل الاعتقادية كالتوحيد والنبوة والإمامة والمعاد، إنما هو الإيمان والاعتقاد بهذه الحقائق.

وجميع المواجهات التي كان يقوم بها المشركون بوجه خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله إنما كانت مواجهات لما كان يبديه من اعتقاده!

وعلى كل حال، فإنه ما لم تصح عقيدة الإنسان والمجتمع وتخلص من الخرافات و تتنزه عن الأوهام، فلاسبيل للمجتمع إلى الرقي الحقيقي والرشد والتقدم، بل حتى لو قدر له أن يتقدم في المظاهر المادية أو الظواهر الاقتصادية فإن ذلك سيحدث له صعوبات ومشاكل، وسيبتلي بالظلم والاستكبار والاستعلاء، ولذا فإن انحراف العقيدة وتلوّن الاعتقاد أشد خطراً من أي سقم ومرض.

ومن أجل حفظ العقيدة جاء الاسلام بتعاليم مهمة لصيانة المجتمع عن الانحراف العقائدي والفساد الفكري، لئلا يختطف سرّاق العقيدة هذه الثروة الإنسانية النفيسة التي لانظير لها، فكان من هذه التعاليم والفرائض

ص: 5

المهمة وجوب كشف البدع والبراءة من أهل البدع، والرد على شبهاتهم، وتحريم نشر عقائدهم الفاسدة، ومنع نشر كتب الضلال، ووجوب إبطال الباطل وإظهار الحق، وأمثال هذه التكاليف من أجل صيانة العقائد عن الانحراف، وحماية ثغور المسلمين الفكرية والعقائدية.

فمثل هذا التحذير (من أصغى الى ناطق فقد عبده) والتأكيد على مجالسة العلماء والاجتناب عن مجالسة أهل البدع إنما كان لهذا الغرض.

وما يأمر به القرآن الكريم في قوله تعالى «وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره»(1)

وفي قوله تعالى «إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا فى حديث غيره إنكم إذاً مثلهم»(2) كل ذلك للحفاظ على العقائد والأخلاق وصونها.

فعلى كل مسلم أن يفكر في عقائده ليطمئن إلى مطابقتها لتعاليم القرآن المجيد وإرشاداته، وتعاليم النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسيرته. وليخلص نفسه من خطر الضلال.

والمرجع الأول أو الأساس لبلوغ الإنسان هذا الهدف هو القرآن المجيد، والأحاديث المتواترة المقطوعة الصدور التي رواها رواة أحاديث علوم أهل البيت عليهم السّلام وحملة علومهم.


1- الأنعام: 68
2- النساء: 140

ص: 6

ثم عليه أن يعرض دينه في الدرجة الثانية على العلماء المتعمّقون في القرآن والحديث، وليس الغرض من الرجوع إليهم في العقائد تقليدهم فيها، بل من أجل أن يتعلم منهم ويصل إلى اليقين والاعتقاد بالاستدلال المناسب في كل باب.

ومن جملة السبل لتصحيح مباني الاعتقاد الإسلامي مطالعة الكتب التي ألّفها أساطين العلماء أمثال الصدوق، والشيخ المفيد، والشيخ المجلسي (1) والشيخ البهائي، والشهيدان ونصير الدين الطوسي وغيرهم من الأعاظم ممن كتب في الاعتقادات.

ولايخفى أن كتب الاعتقادات والعقائد في أصول الدين وسائر عناوينه كثيرة جداً، يضاف إليها ما كتب بكثرة في بعض المسائل الاعتقادية بوجه خاص، كالتوحيد والنبوة والإمامة.

والهدف من تأليف هذه الكتب هو أن لايضيف ذوو الأهواء والأغراض والمبدعون شيئاً على العقائد والمعارف الإسلامية، بل تبقى مسائلها الاعتقادية مصونةً عن النقيصة والزيادة أوّلا، ثم للرد على أُولئك الذين ينسبون العقائد الفاسدة حصومةً للمسلمين وخاصة شيعة أهل البيت عليهم السّلام. والفائدة الثالثة هي أن ينظر المسلمون فيها ليصححوا اعتقاداتهم


1- من الطريف أن نذكر هنا أن هذه( الاعتقادات) التي جمعها العلامة المجلسي في 750 بيتاً، وفقاً لما يرويه المحدث النوري في ليلة من اخريات ليالي محرم الحرام سنة 1086 ه- ق في مشهد الرضا عليه السلام، هي حسب تصورنا دليل على تأييده من عند اللّه لاستحضاره الذهني وإحاطته الشاملة، وهي كسائر التوفيقات التي لا نظير لها التي كانت من نصيب مفخرة الإسلام المجلسي قدس سره.

ص: 7

ويعرفوا آراء علماء مذهبهم.

ومما لاينبغي أن يجهل أن بعض هذه الكتب اذا اشتملت على مسائل لايجب الاعتقاد بها في حد نفسها، فالهدف منها أن تشمل الثقافة الإسلامية جميع المسائل التي تتعلق بالمعارف الإسلامية من تفسير، وقصص أنبياء، وما يجري في القيامة وعالم البرزخ، والملائكة والجنة والنار، والأمور الأخرى المستفادة من الكتاب العزيز والأحاديث الشريفة، ولئلا يؤول أحد القرآن أو الحديث حسب ظنه وسليقته على خلاف ظواهره، وعلى خلاف الأصول المقبولة في التفسير فيعد ذلك عرفاناً أو فلسفة من نفسه، ثم ينسبه إلى الإسلام وأولياء الإسلام.

من أجل ذلك كانت مطالعة كتب العقائد مفيدة جداً، نافعة في الوعي والمعرفة.

كتابان قيمان

اشارة

من جملة الكتب القيمة النفيسة التي ألفت في هذا الحقل كتاب الاعتقادات للشيخ الجليل الحافظ لأسرار علوم آل البيت عليهم السّلام الشيخ الصدوق وكتاب تصحيح الاعتقاد للشيخ الأعظم فخر الشيعة، وقامع البدع، ورافع رايات الحق الشيخ المفيد رضوان اللّه تعالى عليهما.

فهذان الكتابان قيمان نافعان متضمنان فوائد جمة، وإن مطالعتهما جميعاً تفتح للقراء آفاقاً بعيدة المدى. في كتاب الاعتقادات مسائل يجب على الكل الاعتقاد بها، كما ذكرت إلى جانبها مسائل لايجب الاعتقاد بها،

ص: 8

وفي بعض الموارد أُثيرت بحوث فقهية وفرعية وعملية، وهي تحت عنوان (اعتقادنا) ولم يفرق بين هذه المسائل لامن قبل الشيخ أبي جعفر الصدوق نفسه، ولا من قبل أبي عبداللّه المفيد.

وما هو مسلم في المسائل التي لايجب الاعتقاد بها أنه ينبغي أن يكون الاعتقاد بها غير مخالف للمسائل والاعتقادات الواجبة الأصلية، ولامخالفاً لضروريات الدين، لكن لايلزم أن يكون الإنسان معتقداً بهاأو بكيفيات بعضها، وإن كان يجب الاعتقاد بأصلها.

فمثلا في باب الاعتقاد في التكليف: لو اعتقد بأن اللّه تعالى يكلف بما لايطاق لكان ذلك منافيا للعقيدة بعدل الباري، و تنزّهه عن الصفات والأفعال القبيحة، إلا أنه لايلزم مع الاعتقاد بتنزه اللّه تعالى عن فعل القبيح، الالتفات إلى تفاصيله مثل أنه تعالى لايكلف بما لايطاق.

وفي باب الجبر والتفويض: الإعتقاد بالجبر المستلزم إثبات صدور الظلم والقبيح عن اللّه مناف للاعتقاد بالعدل، والاعتقاد بالتفويض في بعض معانيه مناف للتوحيد، إلا أن عدم الالتفات الى (الأمر بين الأمرين) إذا لم يكن مفهومه العقيدة بأحد الأمرين لايوجب الخروج عن الإيمان، فليست معرفة الأمر بين الأمرين شرطاً في الإيمان.

وفي مسألة الوحي: يجب الاعتقاد بالوحي وارتباط النبي بعالم الغيب، ورسالته من قبل الله ونبوته، لكن لايجب الاعتقاد بكيفية ذلك وإن افترضناإمكان معرفته واستيعابه.

ص: 9

إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة في الاعتقادات مما لسنا في صدد استقصائه، ولعلنا سنشير إلى بعضها خلال بحثنا في أبواب هذين الكتابين.

والآن نَود بمراجعتنا لهذين الكتابين أن نجلس بين يدى نابغتين في الحديث والكلام وعَمَدَين في معارف الدين، ونَنهل من مَعينهما الفياض، ونقتطف من ثمار علومهما اليانعة.

الاعتقاد في التوحيد

وأول باب فتحه أبوجعفر عليه الرحمة في هذه الرسالة الموسومة بالاعتقادات باب له تقدم مطلق على جميع الأبواب، وهو باب التوحيد الذي عبر عنه ب- (باب اعتقاد الإمامية في التوحيد) ثم قال:

(إعلم أن اعتقادنا في التوحيد: أن اللّه تعالى واحد أحد ليس كمثله شي ء، قديم لم يزل ولايزال سميعاًبصيراً، عليماً حكيماً، حيّاً قيوماً، عزيزاً قدوساً، عالماً قادراً غنياً، لايوصف بجوهر ولاجسم ولاصورة ولاعرض ولاخط ولاسطح، ولاثقل ولاخفة، ولاسكون ولاحركة، ولامكان ولازمان، وإنه تعالى متعال عن جميع صفات خلقه، خارج (عن الحدين) حد الإبطال وحد التشبيه).

ثم واصل هذه الكلمات الرفيعة العرفانية مشيراً إلى بعض آيات القرآن وتفسيرها.

ومنها: هذه الآيةالكريمة «يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود ..

ص: 10

وهم سالمون»(1) فقال في مقام نفي توهم دلالة الساق على ساق الرِجل: الساق وجه الأمر وشدته.

وقال المفيد قدّس سرّه أيضاً

«يوم يكشف عن ساق»

يريد به: يوم القيامة ينكشف فيه عن أمر شديد صعب عظيم وهو الحساب والمداقّة على الأعمال والجزاء.

ومنها هذه الآية «والسماء بنيناها بأيد»(2) فقال في تفسيرها: الأيد: القوة، ومنه قوله تعالى «واذكر عبدنا داود ذا الأيد»(3) يعني ذا القوة.

وجاء في كلام المفيد (ومضى في كلام أبي جعفر رحمه اللّه شاهد اليد عن القدرة قوله تعالى (واذكر عبدنا داود ذا الأيد» فقال: ذو القوة).

قال الشيخ المفيد: وفيه وجه آخر وهو أن اليد عبارة عن النعمة قال الشاعر:

له عليّ أياد لست أُكفرهاوإنما الكفر ألّا تشكر النعم

فيحتمل أن قوله تعالى «داود ذا الأيد» أن يريد به: ذا النعم، ومنه قوله تعالى «بل يداه مبسوطتان»(4).

أقول: كأنه اشتبه الأيد المفرد الذي هو بمعنى القدرة والقوة بالأيد الذي


1- القلم: 42 و 43
2- الذاريات: 47
3- ص: 17
4- المائدة: 64

ص: 11

جمع يد، والشيخ أبو جعفر فسّر الآية على الأيد المفرد لا على الأيد الذي هو جمع، والشيخ أبو عبد اللّه فسّره على ما هو جمع اليد. والظاهر هو الأول.

ومنها تفسيره لهذه الآية «ونفخت فيه من روحي»(1) إذ قال: (وهو روح مخلوقة جعل اللّه منها في آدم وعيسى، وإنما قال (روحي» كما قال بيتي وعبدي وجنتي، أي مخلوقي وناري وسمائي وأرضي».

وقد استدرك الشيخ أبو عبد اللّه المفيد على هذا التفسير فقال: (ليس وجه إضافة الروح إلى نفسه والبيت إليه من حيث الخلق فحسب، بل الوجه في ذلك التمييز لهما بالإعظام والإجلال».

لكن هذا الاستدراك على الصدوق كما يبدو- غير موجه لأن الظاهر أن الغرض من وصف الروح بقوله: (هي روح مخلوقة»، بيان حدوث الروح ومخلوقيتها وإثبات صفات الحدوث والمخلوقية لها، ودفع توهم عدم حدوثها لا أنه لم يلتفت الى أن الاضافة تكريمية وتشريفية، ويكفي دليلًا على التفاته إلى هذه اللطيفة أنه في مقام التشبيه شبه إضافة الروح بإضافة البيت إلى ذاته المقدسة.

ومن الآيات التي فسرها الصدوق في هذا الباب في رفع توهم المجسمة


1- الحجر: 29 و ص: 72

ص: 12

قوله تعالى «يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدَىَّ»(1) فقال: إن المراد: بقدرتي وقوتي.

وقد استدرك عليه الشيخ المفيد فقال: هذا يفيد تكرار المعنى فكأنه قال: بقدرتي وقدرتي، أو بقوتي وقوتي، إذ القدرة هي القوة والقوة هي القدرة، بل المراد من (بيدىَّ) هو: بنعمتيَّ، والمراد منهما نعمة الدنيا ونعمة الآخرة و (الباء) في قوله تعالى (بيدىَّ) تقوم مقام اللام واللام لام الغاية، أي خلقت لنعمتيَّ كما قال في سورة الذاريات «وما خلقت الجنَّ والإنس إلا ليعبدون»(2)

ثم قال: وفي تأويل الآية وجه آخر وهو أن المراد باليدين فيهما هو القوة والنعمة فكأنه قال: خلقت بقوتي ونعمتي، وفيه وجه آخر وهو أن إضافة اليدين إليه إنما اريد تحقق الفعل وتأكيد إضافته إليه وتخصيصه به دون ما سوى ذلك من قدرة أو نعمة، وشاهد ذلك قوله تعالى: «ذلك بما قدّمت يداك»(3) والعرب تقول «يداك أوكَتا، وفُوك نَفخ».

ومما تجدر الإشارة إليه هو أن الصدوق قال في تفسير الآية أيضاً «بل يداه مبسوطتان» يعني نعمة الدنيا ونعمة الآخرة.


1- ص: 75
2- الذاريات: 56
3- حج: 10

ص: 13

وربما استفيد ذلك من قول اليهود «يد اللّه مغلولة»(1) حيث ذكروا اليد مفردة بمعنى أن اليهود لما كانوا غير معتقدين بعالم الآخرة، بل كانوا يعتقدون بنعمة الدنيا وهذا العالم فحسب، فإنهم عبروا عن ذلك باليد، وبما أنهم كانوا يزعمون أن هذا العالم يجري لوحده وأن اللّه فرغ منه وخرج عن أمره، فقد أنكروا استمرار نعمة اللّه وإفاضة فيضه، ولذا فقد عبر عن قولهم «يد اللّه مغلولة».

وفي عبارة «بل يداه مبسوطتان» رد على الاعتقادين الفاسدين، وذلك بأن الدنيا ونعمتها واستمرارها منه سبحانه، والآخرة ونعمتها واستمرارها من قبله أيضاً. فاللّه لم يفرغ من الأمر و «كلُّ يوم هو في شأن»(2).

أما تفسيره لقوله تعالى «لما خلقت بيدي» حيث اعتبر الباء بمعنى اللام وجعل اللام للغاية فيبدو بعيداً، أضف إلى ذلك أن لفظي القوة والقدرة ليسا مترادفين بمعنى واحد، فمعناهما مختلف بحسب اللغة، ولذا فقد قيل في الأسماء الحسنى للّه: إن معنى القادر غير معنى القوي.

وبعد هذا نقول: يبدو أنّ أظهر الوجوه في تفسير الآية الشريفة هو الوجه الثالث من الوجوه التي أشار إليها المفيد، وهو بما أن ظهور قدرة الإنسان إنما تكون بكلتي يديه، وبكلتي اليدين تتجلى القدرة بصورة أكمل وأكثر لذا فقد بيّن بهذا التعبير ظهور كمال قدرة اللّه في خلق آدم وعبر


1- المائدة: 64
2- الرحمن: 29

ص: 14

عن ذلك (بيديَّ)، وليس المراد منه أن قدرة اللّه لها مراتب، وليس حالها حال المقدورات كالإنسان مثلًا، إذ لايستطيع أن يحمل بيد واحدة ما ينبغي حمله بيديه معاً.

وفي علم اللّه وقدرته لايوجد هذا التفاوت والاختلاف بالنسبة إلى المقدورات والمعلومات، لكن قدرة اللّه الواسعة غير المتناهية، هي التي أظهرها بخلق المخلوقات الصغيرة والكبيرة، وما يرى وما لايرى، والإنسان والحيوان، والملائكة والمجردات، والنمل والجراد، والذرة الخ.

وفي ذكر بيان وجود الإنسان إظهار للقدرة بصورة أجلى، ومن أفراد البشر الكاملين آدم عليه السلام وسائر الأنبياء، وخاصةً الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وأوصياءه، فهم أكمل وأجلى وأتم صورةً لإظهار قدرة اللّه.

ولهذه الجهة كان التعبير «بيديّ» في خلق آدم أكثر ملائمة ومناسبة وموافقة للبلاغة. واللّه هو العالم بمراده.

ومن جملة الآيات التي فسّرها الصدوق في هذا الباب، دفعاً لتوهم النقص في ذات الباري تعالى، هذه الآيات «يخادعون اللّه وهو خادعهم»(1) وقوله تعالى «ومكروا ومكر اللّه»(2) و «اللّه يستهزي بهم»(3) فقال: وفي القرآن (يخادعون اللّه وهو خادعهم) وفيه أن (اللّه يستهزئ بهم)


1- النساء: 142
2- آل عمران: 54
3- البقرة: 15

ص: 15

وفي القرآن «سخر اللّه منهم»(1) وفيه «نسوا اللّه فنسيهم»(2) ومعنى ذلك كله أنه عزّوجلّ يجازيهم جزاء المكر، وجزاء المخادعة، وجزاء الاستهزاء، وجزاء النسيان، وهو أن ينسيهم أنفسهم كما قال عزّوجلّ «ولا تكونوا كالذين نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم»(3) لأنه عزوجل في الحقيقة لايمكر ولايخادع ولايستهزى ء ولايسخر ولاينسى، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.

وقد استدرك المفيد عليه قائلًا (هو كما قال إلّا أنه لم يذكر الوجه في ذلك، والوجه أن العرب تسمي الشي ء باسم المجازى عليه للتعلق فيما بينهما والمقارنة، فلما كانت المجازى عليها مستحقة لهذه الأسماء كان الجزاء سمّي بأسمائها (ص 21).

ثم استشهد بهذه الآية «إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً»(4) ثم قال «فسمى ما يأكلون من الطيبات تسمية النار وجعله ناراً لأن الجزاء عليه النار».

وبديهي أنه إذا كان غرض المفيد من الاستشهاد بهذه الآية لبيان أنه بمجرد المقارنة بين الجزاء والمجازى عليه يطلق أحدهما على الآخر كما هو


1- التوبة: 79
2- التوبة: 67
3- الحشر: 19
4- النساء: 10

ص: 16

الحال في آيات المكر والخديعة والاستهزاء، حيث اطلق الجزاء وأُريد به المجازى عليه، وفي هذه الآية انعكس الأمر فاطلق المجازى عليه مكان الجزاء وهو النار، فذاك إتمام للمطلب.

وقد استدرك المفيد على الصدوق في تفسير قوله تعالى «نسوا اللّه» فقال: النسيان في اللغة هو الترك والتأخير، وبناء على هذا فمعنى (نسوا اللّه) تركوا إطاعة اللّه ومعنى «نسيهم» تركهم من ثوابه، ومعنى قوله تعالى «أنساهم أنفسهم» أي ألجأهم إلى ترك تعاهدها إلخ.

لكن يمكن أن يقال إن المتبادر إلى ذهن العرف هو تفسير الصدوق واللّه أعلم.

الاعتقاد في صفات الذات وصفات الأفعال

قال الشيخ أبو جعفر الصدوق:

«كلما وصفنا اللّه تعالى من صفات ذاته، فإنما نريد بكل صفة منها نفي ضدها عنه عز وجل ونقول: لم يزل اللّه عزوجل سميعاً بصيراً عليماً حكيماً قادراً عزيزاً حياً قيوماً واحداً قديماً، وهذه صفات ذاته (ص 8) ولانقول: إنه عز وجل لم يزل خلاقا فاعلًا شائياً مريداً راضياً ساخطاً رازقاً وهاباً متكلماً، لأن هذه الصفات صفات أفعاله وهي محدَثة لايجوز أن يقال: إن اللّه لم يزل موصوفاً بها».

أما المفيد فقد استدرك على الصدوق فقال:

صفات اللّه تعالى على ضربين، أحدهما: منسوب إلى الذات فيقال:

ص: 17

صفات الذات وثانيهما: منسوب إلى الأفعال، فيقال: صفات الأفعال والمعنى في قولنا: صفات الذات أن الذات مستحقة لمعناها استحقاقاً لازماً لا لمعنى سواها، ومعنى صفة الفعل: أن اللّه- بوجود الفعل وصدوره عنه- يوصف بالفعل وبدونه، أو كما قال المفيد: قبل وجوده لايوصف به.

فصفات الذات تطلق على الذات، واللّه متصف بها دون واسطة معنى آخر غير ذاته جل وعلا، إلّا أن اتصافه بصفة الفعل بواسطة معنى آخر وهو صدور الفعل عنه.

وقال: إن صفات الذات لايصح لصاحبها الوصف بأضدادها ولاخلوه منها، وأوصاف الأفعال يصح الوصف لمستحقيها بأضدادها وخروجه عنها، ألا ترى أنه لايصح وصف اللّه تعالى بأنه يموت، ولا بأنه يعجز، ولا بأنه يجهل، ولايصح الوصف بكونه حياً عالماً قادراً ويصح الوصف بأنه غير خالق اليوم ولارازق لزيد ولامحيي لميت، الخ.

وتوضيحاً لذلك نقول: الظاهر أن الصدوق أراد من قوله

«كلّما وصفنا اللّه تعالى من صفات ذاته فإنما نريد بكل صفة منها نفي ضدها ...»

نفي الصفات الزائدة على الذات فلانقول

«اللّه علمٌ وعالم ذاته وعلمه».

كأنه أراد أن يقول: إن مدلول العالم والقادر ... وما يفهم من ذلك مع ملاحظة نفي الصفات الزائدة على الذات: أن اللّه ليس بجاهل أو اللّه ليس بعاجز، وبتعبير آخر: لعل مراده أن الفرق بين صفة الذات وصفة الفعل، أن مفهوم صفة الذات هو نفي ضدها عن اللّه، فمعنى (اللّه عالم) إثبات

ص: 18

العلم للّه، أن ضده بهذا المفهوم منفي عن اللّه، وأن اللّه ليس متّصفاً بضد ذلك و (ليس بجاهل) الذي مفهومه نفي كل نوع من الجهل كالجهل بالجزئيات، لأن نقيض السالبة الكلية (ليس بجاهل) الموجبة الجزئية (جاهل بالجزئيات) بخلاف قولنا (اللّه الشافي) أو (الله الكافي) الذي ليس مفهومه أن اللّه ليس بالشافي و ليس بالكافي. وبهذين المعيارين تتميز صفات الذات عن صفات الفعل.

واللطيفة المهمة الأخرى هنا: هي أنه إذا كانت في الصفات التي ذكرها الصدوق وسائر صفات اللّه الكمالية، سواء كانت جمالية أو جلالية، ما اختلف فيه أهو صفة الذات أم صفة الفعل، ولم تتضح ماهيتها من الكتاب والسنة، فإن طريق السلامة والنجاة أن نتجنب الخوض فيها ونكتفى بالاعتقاد الإجمالي في مورد الاعتقاد والتدين بها، وأن نعرض عن الجدل والنقاش في مثل هذه الأمور.

وينبغي أن نروي بعض الأحاديث الواردة عن أهل بيت العصمة في هذا المقام لمناسبة الكلام، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال لمحمد بن مسلم «يا محمد، إن الناس لايزال بهم النطق حتى يتكلّموا في اللّه فإذا سمعتم ذلك فقولوا: لااله إلّا اللّه الواحد الذي ليس كمثله شي ء».

وروي عنه عليه السلام أنه قال أيضاً «من نظر في اللّه كيف هو هلك».

كما روي عن أحد الصادقين (إما الباقر أو ابنه أبي عبد اللّه عليهماالسلام) أنه عند ما سُئل عن شي ء من الصفة «فرفع يده إلى السماء ثم قال: تعالى

ص: 19

الجبار تعالى الجبار من تعاطى ما ثَمَّ هلك!».

وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: (إن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم اللّه عن الإقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب، إقراراً بجهل ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فقالوا (آمنا به كلٌ من عند ربنا)(1) وقد مدح اللّه اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً، وسمّى تركهم التعمق فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه رسوخاً).

الاعتقاد في التكليف

لم يستدرك الشيخ أبو عبد اللّه المفيد في هذا الباب على الشيخ الصدوق رحمهما اللّه وخلاصة كلام الشيخ أبي جعفر هو أن اللّه تعالى لم يكلف عباده إلا دون ما يطيقون واستشهد بقوله تعالى (الايكلف اللّه نفساً إلا وسعها)(2) ثم فسّر الوسع بأنه (دون الطاقة) كما تمسك بحديث روي عن الصادق عليه السلام في هذا الشأن أيضاً.

الاعتقاد في أفعال العباد

قال الصدوق عليه الرحمة: اعتقادنا في أفعال العباد أنها مخلوقة خلق تقدير لاخلق تكوين، ومعنى ذلك أنه لم يزل عالماً بمقاديرها.

وقد استدرك الشيخ المفيد قدس سره على الشيخ أبي جعفر بقوله:


1- آل عمران: 7
2- البقرة: 286

ص: 20

الصحيح عن آل محمد صلى الله عليه و آله أن أفعال العباد غير مخلوقة للّه، والذي ذكره أبو جعفر قدجاء به حديث غير معمول به ولامرضيّ الإسناد، والأخبار الصحيحة بخلافه، وليس يعرف في لغة العرب أن العلم بالشي ء هو خلق له، ولو كان ذلك- كما قال المخالفون للحق- لوجب أن يكون من علم النبي صلى الله عليه و آله فقد خلقه، ومن عَلِمَ السماء والأرض فهو خالق لهما، ومن عرف بنفسه شيئاً من صنع اللّه تعالى وقرره في نفسه لوجب أن يكون خالقاً له. وهذا محال لايذهب وجه الخطأ فيه على بعض رعية الأئمة عليهم السلام فضلًا عنهم ...

فأما التقدير فهو الخلق في اللغة لأن التقدير لايكون إلا بالفعل، فأما بالعلم فلايكون تقديراً ولايكون أيضاً بالفكر، واللّه تعالى متعال عن خلق الفواحش والقبائح على كل حال.

وعقّب على ذلك برواية عن أبي الحسن الثالث عليه السلام فقال: إنه سئل عن أفعال العباد فقيل له: هل هي مخلوقة للّه تعالى؟ فقال عليه السلام: لو كان خالقاً لها لما تبرّأ منها، وقد قال سبحانه «اللّه بري ءٌ من المشركين ورسولُه»(1) ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم وإنما تبرّأ من شركهم وقبائحهم. ثم ذكر الإمام عليه السلام ما جرى بين أبي حنيفة والإمام موسى بن جعفر عليهماالسلام في هذا المقام واستشهد ببعض الآيات التي تدل على تنزّه اللّه عن


1- التوبة: 3

ص: 21

فعل القبيح.

ونحن نقول في هذا البحث: من المتيقن به أن الشيخ الصدوق كالشيخ المفيد لا يرى أن اللّه فاعل أفعال العباد، وما ذكره الشيخ المفيد من الآيات والروايات فيه تطابق نظر ووحدة رأي بينه وبين الشيخ الصدوق إلا أنه هنا أراد أن يفسّر ظواهر من قبيل «اللّه خالق كل شي ء»(1) أو «كلٌّ من عند اللّه»(2) ففي الوقت الذي يكون الإنسان نفسه فاعل أفعال نفسه، لكن لما كان العلم بما فيه من هذا النظام والترتيب والتقدير، ومن جملته كون الإنسان مختاراً هو فعل اللّه ومحكوم تقديره، فمن هذه الجهة يكون صدور المعصية والقبيح من الإنسان باختياره بتقدير اللّه ومن لوازم خلقه وتقديره وآثارهما أيضاً، لذا فلو قيل بأن أفعال العباد هي مخلوقة من اللّه، فإنه لم يقع في ذلك خلاف ولاإثبات نقص واستناد قبيح إليه سبحانه، ولعل ذلك هو معنى الحديث القدسي:

«يابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك».

وبديهي أن العالم بالمقادير هو خالق التقادير، ومن هذا المنطلق جاز أن يطلق عليه خالق المقادير، وهذا هو غير الفعل المتعلق بالتقدير الواقع في التقدير، كما أن تقدير أمور عالم الخلق ونظامه المقدر والمقرر، غير العلم بالنظام والتقدير، وعلم اللّه وإن كانت حقيقته التي هي حقيقة الذات


1- الزمر: 62
2- النساء: 78

ص: 22

عينها غير معلومة لأحد، إلا أننا نعلم هذا القدر وهو أن غير العلم مخلوق. إذن فلايمكن القول: بأنه إذا كانت أفعال العباد مخلوقة بخلق التقدير فمن علم النبي فقد خلقه.

والانصاف أنه لايرد على الصدوق أي إشكال، وما قاله الصدوق وتوضيحنا عليه هو ما قاله الشيخ المفيد في ذيل

«باب الجبر والتفويض».

وعلى كل حال فما قاله المفيد هو الحقيقة عينها، وهو أن «اللّه تعالى متعال عن خلق الفواحش والقبائح على كل حال» وهذه حقيقة يعتقد بها الصدوق وأهل العلم جميعاً والشيعة قاطبة، والآيات والروايات صريحة في ذلك، ولايتهم أي شيعي بغير هذا الاعتقاد.

أما الاستدلال بخصوص الآية «ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت»(1) فمحل نظر وتأمل، لأننا إذا لم نقل: إن الخلق- هنا- ظاهر في معناه المصدري وهو الإيجاد، لابمعنى اسم المصدر، فإن المعنى الثاني ليس بأرجح من المعنى الأول.

الاعتقاد في نفي الجبر والتفويض

قال الشيخ أبو جعفر الصدوق اعتقادنا في الجبر والتفويض قول الإمام الصادق عليه السلام

«لاجبر ولاتفويض بل أمر بين الأمرين»

فقيل له: وما


1- الملك: 3

ص: 23

أمر بين أمرين؟ فقال: ذلك مثل رجل رأيته على معصيته فنهيته فلم ينته، فتركته، ففعل تلك المعصية، فليس حيث لايقبل منك فتركته، كنت أنت الذي أمرته بالمعصية.

ولتوضيح هذا الحديث الشريف وقبل التعرض إلى كلام الشيخ أبي عبد اللّه المفيد نقول: يحتمل أن يكون المراد أن الأمور غير مفوَّضة إلى الناس أنفسهم، وإلّا لكان كل من التكليف والأمر والنهي في غير محله، كما أن الاختيار لم يسلب منهم، وإلّا لما كان يتحقق منهم العصيان في التكاليف.

وهذا البيان يكون وجيهاً في صورة مالوكان المراد من التفويض هو التفويض المطلق أي الأعم من التفويض التكويني والتشريعي، لأن التفويض التشريعي ينتفي بهذا البيان.

ويمكن أن يبين بهذا النحو وهو أن الأمر بين الأمرين، يعني أن نهي العبد عن المعصية لايكون سبباً عن صدّه عن المعصية، وتركه على حاله لايكون دافعاً له إلى المعصية، وفي هذا الأمر «الوسط» يكون اختياره محفوظاً لكنه ليس بلاتكليف ولامفوض إليه.

إلا أن الشيخ أبا عبد اللّه المفيد عرف الجبر أوّلًا فقال: هو الحمل على الفعل ... بالقهر والغلبة، وحقيقته إيجاد الفعل في الخلق دون أن يكون لهم القدرة على الامتناع. ثم قال: وقد يعبر عما يفعله الإنسان بالقدرة التي معه على وجه الإكراه له على التخويف والإلجاء، أنه جبر، والأصل فيه ما فعل من غير قدرة على امتناعه منه حسب ما قدمناه، وإذا تحقق القول في

ص: 24

الجبر على ما وصفناه كان مذهب أصحاب المخلوق هو بعينه، لأنهم يزعمون أن اللّه تعالى خلق في العبد الطاعة من غير أن يكون للعبد قدرة على ضدها والإمتناع منها، وخلق فيه المعصية كذلك، فهم المجبرة حقاً والجبر مذهبهم على التحقيق.

ثم قال: والتفويض: هو القول برفع الحظر عن الخلق في الأفعال، والإباحة لهم مع ما شاءوا من الأعمال، وهذا قول الزنادقة وأصحاب الإباحات، والواسطة بين هذين القولين: أن اللّه تعالى أقدر الخلق على أفعالهم ومكّنهم من أعمالهم وحدّ لهم الحدود في ذلك، ورسم لهم الرسوم، ونهاهم عن القبائح بالزجر والتخويف والوعد والوعيد، فلم يكن بتمكينهم من الأعمال مجبراً لهم عليها، ولم يفوض إليهم الأعمال لمنعهم من أكثرها الخ ...(1).

وتعقيباً على ما قاله هذان الشيخان العظيمان،- بما ذكرناه آنفاً من شرح توضيحي لمفاد الرواية التي رواها الشيخ الصدوق عليه الرحمة ينكشف أن التفويض عندهما جميعاً بمعنى واحد.

كما ينبغي أن نستدرك قائلين: إن التفويض اطلق على معنيين آخرين:

أحدهما: تفويض الخلق والرزق إلى الأئمة عليهم السلام كما روي عن الإمام الرضا عليه السلام حيث قال (من زعم أن اللّه يفعل أفعالنا ثم يعذبنا عليه فقد قال بالجبر، ومن زعم أن اللّه فوّض الخلق والرزق إلى حججه


1- راجع تصحيح الاعتقاد ص 32 و 33.

ص: 25

عليهم السلام فقد قال: بالتفويض. فالقائل بالجبر كافر والقائل بالتفويض مشرك».

وما يلمس من خلال هذا التعريف: أن مورد الجبر والتفويض ليس واحداً، فالجبر في مورد أفعال العباد، والتفويض في أمر الخلق والرزق، ووفقاً لهذا التعريف، فإنّ تصور الأمر بين الأمرين اللذين هما في مورد واحد يكون بغير موضوع.

والمعنى الثاني: أن العباد في أفعالهم مخيرون وهم في غنى واستقلال عن المدد الإلهي وقوته، وأعمالهم تصدر دون حوله وقوته، ولاتوجد في البين مسائل من قبيل التوفيق والخذلان.

والظاهر أن المسألة التي أُثيرت بين المتكلمين والأشاعرة والعدلية في الجبر بمعناه المذكور والتفويض، كانت بهذا المعنى، والحديث الشريف «لاجبر ولاتفويض بل أمر بين الأمرين» والأحاديث الكثيرة الأخرى والوجوه المذكورة في المراد من «الأمر بين الأمرين» تشعر بهذا المعنى وهو أن التفويض في قبال الجبر، كالرواية الواردة عن محمد بن عجلان، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: فوّض اللّه الأمر إلى العباد؟ فقال: اللّه أكرم من أن يفوّض الأمر إليهم، قلت: فأجبر اللّه العباد على أفعالهم؟ فقال: اللّه أعدل من أن يجبر عبداً على فعل ثم يعذّبه عليه.

وقال عليه السلام في حديث آخر

«اللّه تبارك وتعالى أكرم من أن يكلّف الناس ما لايطيقونه، واللّه أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لايريد».

ص: 26

الاعتقاد في الإرادة والمشيّة

ما قاله الصدوق عليه الرحمة في هذا الباب ليس بمكان من الوضوح يصل إليه فَهْمُ أمثالي بسهولة، ويستطيع أن يدرك نظرات هذا الرجل العظيم، لذا فنحن في حدود ما فهمناه واستظهرناه من أقواله في هذا الشأن نسجل ملاحظاتنا فنقول:

الظاهر من كلمات الصدوق أنه عدّ الإرادة والمشيئة بمثابة اللفظين المترادفين، وفرق بينهما وبين الحب والرضا والسخط والكراهة. فما كان متعلق الإرادة والمشيئة فهو حتمي الوقوع، وما كان متعلق الحب والرضا فلايلزم منه الوقوع، كما أن ما هو متعلق السخط والكراهة لايلزم منه العدم، بل أراد ما يكون متعلق حبه أو كرهه أن يُفعل أو يُترك باختيار الفاعل.

ولإيضاح هذا الأمر استشهد بآيات من قبيل «لايرضى لعباده الكفر»(1) و (ولو شاء ربُّك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً)(2) واستعمل عبارات هي محل نقاش، كقوله «شاء أن لايكون شي ء إلا يعلمه» لأن الإرادة أو المشيئة تتعلق بأمر لايوجد لولا الإرادة والمشيئة، أما الشي الذي لايكون إلا بعلمه فهذا تحصيل حاصل وواقعية ثابتة ...

وما ينبغي التنويه عنه هنا أن العبارة في النسخة المطبوعة عندي من


1- الزمر: 7
2- يونس: 99

ص: 27

اعتقادات الصدوق وردت كلمة (بعلمه) في جملة «شاء اللّه أن لايكون شي ء إلا بعلمه» بالباء الموحدة، وإذا أردنا أن نؤوّل هذه الجملة بما يلي: شاء اللّه أن لايقع شي ء إلّا بسبب علمه، أي: أراد أن لايقع ما لايعلمه، فهذا مستلزم للجبر والدور، وهو ما نقله الشيخ المفيد عن قول المجبرة الذين لم يصرحوا أن اللّه أراد المعصية فيكونوا كفاراً بذلك، فقالوا: يريد أن يكون ما علم كما علم، ويريد أن تكون معاصيه قبائح منهياً عنها!.

والجواب على ذلك: أنه يستلزم الدور لأن ارادة (ما علم)- (المعلوم) مثلًا وجود زيد- متوقفة على إرادة وجوده، وإرادة الوجود ستكون متوقفة على كونه معلوما ...

وخلاصة الكلام هنا- ولعلها تنسجم مع نظرتي هذين الشيخين الجليلين- هي أن النظام المقرر بتقدير اللّه وتدبيره في العالم كله، واللّه عالم به، سيقع وفقاً للنظام المقرر بالإرادة الإلهية، ومن جملته صدور الأفعال عن العباد باختيارهم متعلق هذه الإرادة، أما الكفر والظلم والأعمال القبيحة فلايرضاها وقد نهى عنها ولو صدرت عن العباد في هذا النظام فقد اسند صدورها إليهم أنفسهم، فما هو متعلق الإرادة كون العباد مخيرين، ومن هذه الجهة فإنه لم يجبر العباد ولم يضطرهم على صدور أفعال الخير، ولم يرد أن يضيق عليهم ويثقلهم ويعسر عليهم، لذا فإن جميع العالم يجري وفقاً لإرادة اللّه تعالى ومشيئته، ولايقع شي ء خارج إرادته ومشيئته، ومن ذلك أفعال العباد أيضاً فلاتصدر عنهم جبراً، ومع

ص: 28

ذلك فجريان نظام العالم تحت رعايته ولاحول ولاقوة إلا باللّه وهو يجري بحوله وقوته و «كل يوم هو في شأن».

الاعتقاد في القضاء والقدر

ذكر الصدوق رحمه اللّه في هذا الباب روايات مهمة وغزيرة جداً، يدرك مضامينها المتضلّعون في المعرفة إلى حدٍّ ما. وهه الروايات تشير إلى غموض أمر القدر وعظمة أسرار الخلق ودقائقه، وعجز البشر عن أن يتوصل إلى معرفة جميع أسرار عالم الخلق والأفعال، بحيث يبسط العارفون ألسنة التقديس والتسبيح تلقائياً خاضعين خاشعين للّه وهم يصغون إلى هذا النشيد الصوفي الرائع:

أنى يحيط بكنه ذاتك عابدأم كيف يرقى للعُقاب ذباب

أتحيط بالبحر الخضم فراشةفيماط عن ربِّ الوجود حجاب (1)

فسبحان الذي دانت له السماوات والأرض بالعبودية.

والغرض أن هذه الروايات عند أُولئك الذين ذاقوا من عين طعم معرفة اللّه وأسماءه الحسنى، في منتهى العذوبة.

أما الشيخ أبو عبدالله المفيد فقد أشار في معنى القضاء إلى أربعة معان بل إلى خمسة معان وهي (الخلق) و (الأمر) و (الإعلام) و (القضاء في فصل


1- البيتان ترجمة لقول الشاعر: هرگز نرسد به كنه معبود كسى*** چون فهم كند سرّ هما را مگسى از روى مثل خداست درياى محيط*** وآن را نكند احاطه هر خار و خسى

ص: 29

الخصومات) و (الفراغ من الأمر) وقد استدل على هذه المعاني مستشهداً بالقرآن المجيد، وإن كان الأنسب أن يستشهد في الاستدلال على (الفراغ من الأمر) بقوله تعالى (فإذا قضيت الصلاة)(1).

وواضح أن المعنى المناسب من هذه المعاني الخمسة للقضاء الذي يقترن ذكره بالقدر، هو: الأمر والحكم الذي يشمل الحكم والقضاء التكويني والحكم والقضاء التشريعي.

وما ورد النهي عن التكلّم فيه هو الكلام في القدر، وليس المراد منه أن الكلام والفحص عن كيفية الأشياء ممنوعان ومنهي عنهما- كما لو أردنا أن نعرف مثلًا ممَّ يتألف الماء وكم هي نسبة عناصره بالمئة، أو نعرف مقدار الهواء والأشياء الأخرى- فكل ذلك ليس منهياً عنه، وما هو بواد مظلم حتى يكون السلوك فيه خطراً، فاكتشاف علل الأشياء الظاهرية والطبيعية والكلام فيها وفي ما هو مبدأ العلوم المتعارفة، كالطب والكيمياء والفيزياء والهيئة وغيرها، كل ذلك غير منهي عنه، بل التدبر والتفكر فيه مما رغبت فيه الآيات وحضّت عليه الأحاديث كما يقول القرآن الكريم «وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون»(2).

كما أن البحث أو الفحص عن الحكمة من الأحكام الإلهية وما فيها من


1- الجمعة: 10
2- الذاريات: 20

ص: 30

مصلحة، وهو ما تتناوله أقلام المتكلمين، كل ذلك ليس بحثاً عن القدر، إلا أن يكون البحث في سلسلة أحكام عبادية بحتة، ومعرفة أسرارها وعللها لاتتم إلا عن طريق الوحي والنبي الأكرم نفسه صلى الله عليه و آله والأئمة عليهم السلام من بعده الذين هم خلفاءه، فبواسطتهم يمكن استكشافها ومعرفة كنهها، فليس بيان حكمتها تعويلًا على الحدس والتخمين فيها مقنعاً والقول بغير علم فيها منهي عنه.

ولعل المقصود من القدر، الغامضة معرفتُه والمظلم مسلكه وواديه، هو المعايير والمقادير والنظم الكائنة في عالم الخلق- غير النظم الظاهرية والأسباب والمسببات المعلومة- والأمور التي لايرقى إليها إدراك البشر والبعيدة عن متناول العلوم البشرية، وبعبارة اخرى أسرار الخلق والإيجاد والنظم والأحوال الكلية، العامة الجارية على العالم وسرّ قسمة الأرزاق.

والخلاصة المنهي عنه هو الأمور التي يكون البحث فيها والفحص عنها، موجباً للشك والحيرة والتردد وظهور فلسفة التحيّر «لست أدري»، وربما تكون مدعاة للاعتراض وسوء الظن، وسالباً لحال الاطمئنان في النفس وحسن ظن الإنسان بكل ما يجري في العالم، ومزلزلا لركونه وتسليمه لأمر اللّه الذي يكون فيه في أحسن الحالات وأسعدها، أي أن السلوك في هذا الوادي والتفكير فيه لايعيق الإنسان من أن ينتهي إلى هدف، بل يجعله مبتلى بمرض سوء الظن والحيرة، وهو من أخطر الأمراض النفسية، وربما تسوق صاحبها إلى التفكير في انتحاره وتدمير أحبابه.

ص: 31

والكلام الآخر- هنا- الذي فيه مجال للاستدراك على الشيخ المفيد رحمه اللّه أنه قال: قال الشيخ أبوجعفر في القضاء والقدر: والكلام في القدر منهي عنه، وروى حديثاً لم يذكر إسناده.

فإذا كان مقصوده الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام في جواب رجل سأله عن القدر فأجابه: «بحر عميق فلاتلجه»، فلم يكتف السائل بذلك وسأله ثانية فقال له: «طريق مظلم فلاتسلكه»، ثم سأله ثالثة فقال له: «سرّ اللّه فلاتتكلّفه»،

وهذا الحديث هو الحديث الثالث من الكتاب القيم توحيد الصدوق وقد رواه في الباب 60 (باب القضاء والقدر والأرزاق والأسعار والآجال عن أبيه علي بن الحسين بن بابويه القمي بسند ينتهي إلى أمير المؤمنين عليه السلام، ولم يذكر مسنده في هذه الرسالة (الاعتقادات) لأنها مختصرة.

واستدراك المفيد الآخر على الصدوق قوله: عوّل أبو جعفر في هذا الباب على أحاديث شواذ لها وجوه يعرفها العلماء متى صحت و ثبت أسنادها ولم يقل فيه قولا محصلا.

نقول: أولا: لم يكن الصدوق في صدد بيان معنى القضاء، وإنما روى حديثاً قيماً عن زرارة أنه سأل الصادق عليه السلام فقال له: يا سيدي ما تقول في القضاء والقدر؟ قال: أقول: إن اللّه تعالى إذا جمع العباد يوم القيامة سألهم عما عهد إليهم، ولم يسألهم عما قضى عليهم.

ص: 32

وروى نظير هذا الحديث في الباب المذكور من كتابه التوحيد بسند ينتهى إلى ابن أُذينة. وروى حديثاً آخر في باب القضاء والقدر من كتابه المشار إليه آنفاً بسند ينتهى إلى الأصبغ بن نباته.

ومع ذلك فإن الصدوق إذا لم يكن هنا قد بيّن معنى القضاء و ربما أعرض عنه لوضوحه، فإنه ذكر للقضاء في كتابه التوحيد عشر معان، واستشهد لجميع هذه المعاني بآيات القرآن الكريم، بينما لم يذكر المفيد قدس سره هنا أكثر من أربعة معان للقضاء، وإن كانت المعاني العشرة يمكن إرجاعها بعضها إلى بعض، ونحن لسنا في مقام البحث اللغوي عنها هنا، وإنما مقصودنا أن يعلم أن مثل هذه المعاني لم تكن خافية على الصدوق

وثانياً: على أي أساس ومعيار عدّت هذه الأخبار من الشواذ، مع أن الصدوق نفسه روى في كتابه التوحيد في باب القضاء والقدر ستة وثلاثين حديثاً؟!.

ومما رواه من الأحاديث في هذا الباب حديث آخر مهيب وقيّم جداً وهو

«ألا إن القدر سرّ من سرّ اللّه، وستر من ستر اللّه، وحرز من حرز اللّه، مرفوع في حجاب اللّه»

وهو الحديث 32 من الباب 60 من كتاب التوحيد.

وعلى كل حال فإننا في هذا الباب نتزوّد من كلمات هذين العلمين ونجلس على خوان نعمةٍ ومائدة بسطاها وأمثالهما للُامة الإسلامية عامة وللعلماء والباحثين خاصة، فشكر اللّه مساعيهم.

ص: 33

والأولى أن نتأدب في هذه الأبواب بأدب الروايات وأن نتجنب عن الخوض في القدر، والأولى من ذلك أن نقيد النهي المطلق في هذه الروايات ونعتبره خاصاً باولئك الذين يعد تكلّمهم في القدر خلاف مصلحتهم ويعرضهم للضلال.

وعلى أي، فنظن أن إثارة مسألة قضاء اللّه وقدره والإيمان بها، من فوائدها أن لا يعد أحد أن يد اللّه لادخل لها في الأمر، ولايغفل الناس عن التوكل على اللّه والاستمداد من حوله وقوته، في الوقت نراهم يتوسلون بالأسباب الظاهرية، ولايبسطوا ألسنة الاعتراض والشك بوجه الحوادث والمصائب المكدّرة أيضاً، وأن لاينسوا الحقيقة المشار إليها في الآية الكريمة «عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌّ لكم واللّه يعلم وأنتم لاتعلمون»(1) فيرضوا بقضاء اللّه الذي هو (من الأركان الأربعة) وفقاً لتعبير الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، واللّه هو العالم.

الاعتقاد بالفطرة

للشيخ المفيد في بحث الاعتقاد بالفطرة رأي آخر غير ما ذهب إليه الشيخ الصدوق

ولتوضيح ذلك نقول: توجد في باب الاعتقاد بالفطرة وآيات الفطرة وأحاديثها كالحديث «فطرهم على التوحيد» أو (كل مولود يولد على


1- البقرة: 216

ص: 34

الفطرة)، ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: أن المراد من ذلك هو أن اللّه جعل فطرة الإنسان نقية مقتضية للتوحيد والعقائد الحقة، وحب الحق والخير، والتصديق بحسن العدل وقبح الظلم، والنفور عن الباطل والشر، بحيث لو لم يحجب هذه الفطرة الأمورُ المخالفة من قبيل سوء التربية، فالإنسان بنفسه سيهتدي إلى اللّه ويقر بوجود الصانع كما يتقبل العقائد الحقة عند ما تعرض عليه.

والصدوق فسّر الفطرة بهذا المعنى وقد بحثنا بتفصيل في «رسالتنا» في تفسير آية الفطرة حول هذا الوجه، وكونه موافقاً لأصول العقائد الإسلامية في الفطرة والأحاديث الشريفة التي تدل على هذا المعنى.

والوجه الثاني: أن معنى «فطر الله الخلق على التوحيد» فطرهم للتوحيد، أي خلق الناس للاعتقاد بالتوحيد، وإلى هذا المعنى ذهب الشيخ الأعظم الشيخ المفيد واختاره.

الوجه الثالث: هو أنه عبّر عن إرادة التوحيد منهم بالإرادة التكوينية، والظاهر أن المفيد استظهر من كلام الصدوق هذا الوجه فأجاب عن ذلك بقوله: «لو كان الأمر كذلك لكان الجميع موحدين».

وبديهي أنه لوكان الأمر دائراً بين الوجه الثاني والثالث فالقول الصحيح والمعتبر هو قول المفيد (الوجه الثاني) لكن بما أنّنا قلنا: بأن الوجه المعتبرالمستفاد من الآية والروايات هو القول الأول، وهو مااختاره الصدوق ظاهراً، وفيه رجحان على القول الثاني ظاهراً.

ص: 35

الاعتقاد في الاستطاعة

اختلاف وَجهتي نظر هذين العلمين في باب الاعتقاد أشبه ما يكون بالاختلاف اللفظي، فتعريفنا للاستطاعة بأنها الوجود المقتضي للقدرة، أو الوجود المقتضي للقدرة على الفعل بشرطه، ولما كان عدم القدرة مستنداً إلى عدم المقتضي فمع وجود المقتضي وعدم الشرط، فالمستند هو عدم الشرط. وقد عبر عن الاستطاعة بالمعنى الأول في الآيات والروايات أحياناً، وعبر عنها بالمعنى الثاني في موارد أُخرى، فإذا كان المقصود من مصطلح الاستطاعة ما يقابل عدم الاستطاعة والجبر، فالقدرة على الفعل وتركه استطاعة وإن لم يوجد شرط إعمالها، وعلى أيّ، لايوجد اختلاف جوهري بين هذين العلمين، أو لانعرفه.

الاعتقاد في البداء

يبدو أن هذين العلمين متفقان في مسألة البداء، وإن كان تعبير المفيد أكثر تفصيلا ونفعاً، وقد تعرضت لجوانب هذه المسألة في رسالة سر البداء

وبوسع القارى ء العزيز أن يرجع إلى تلك الرسالة.

الاعتقاد في التناهي عن الجدال

يظهر أن هذين العلمين متفقا النظر في باب الجدال أيضاً، وإن كان كلام المفيد أبسط وأبين، ولو قلنا: بأن كلام المفيد موضح لكلام الصدوق وشرح له لم نعدُ في ذلك وجهَ الصواب.

ص: 36

الاعتقاد في اللوح والقلم

الرواية التي رواها الصدوق في باب (اللوح والقلم) يحتمل أن يكون المراد منهما الملكين القائمين على اللوح والقلم بأمر اللّه، وهما يقرآن ما يكتب بقلم القدرة ويبلغانه سائر الملائكة.

وأما القول بأن الملائكة يدعون بالألواح والأقلام فغير مستبعد، حيث يكفي في التسمية أدنى مناسبة، وما ورد في حديث (سلسلة الذهب) المعروف الذي رواه الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام وذكر سند الحديث فقال (عن اللوح عن القلم عن اللّه تبارك وتعالى) الذي يظهر منه أن اللوح والقلم إسمان لملكين.

وعلى كل حال فإن ما ورد في هذه المصطلحات على لسان الشرع من اللوح والقلم والعرش والكرسي، وما يتعلق بعالم الغيب، فمصدر رواياته صحيح حتماً، والاستظهار البدائي منها غير صحيح، وما قاله الصدوق من هذه الجهة قابل للمناقشة، إذ كيف يمكن التعويل على خبر الواحد الذي لايكون موجباً للعلم، فيدّعى الاعتقاد به، ثم يعبّر عنه بلفظ (اعتقادنا) الذي يوهم بأنه هو عقيدة الشيعة جميعهم.

وينبغي هنا أن نذكر ملاحظات حول المصطلحات الإسلامية والعقائدية:

أولا: كل تعريف مخالف للأُصول الإسلامية، مثل عدم تنزّه الخالق عن صفات المخلوق وشبهه بهم فهو باطل ومردود.

ص: 37

ثانياً: لايصح التعبير القاطع بالجزم بمحض خبر الواحد خاصة إذا كان سنده ضعيفاً غير قوي، فإنه لايحصل الاعتقاد واليقين بالخبر الظني الصدور، وكل تعريف ينافي اصول المذهب أيضاً في مثل باب (الكرسي والعرش)، وعدم تنزّه الباري تعالى عن الجسمية وصفات المخلوق الأخرى فهو في عقيدة الشيعة باطل ومردود.

أما تعريف العرش بالملك أو المعاني الأخرى، بالاستناد إلى ظاهر اللفظ أو الروايات الشارحة فقابل للطرح، لكن الروايات إذا لم تكن متواترة أو قطعية الصدور، فلاتوجب اليقين والعلم والعقيدة نوعاً، وتجري فيها قاعدة «لايوجب علماً ولاعملا».

فكما قال الشيخ المفيد: لايجوز القطع والعمل بالروايات التي هي أخبار آحاد، أي أن القطع لايحصل منها عادةً، إلا أنها إذا لم يعارض مضمونها اصول المذهب فلايجوز ردها أيضاً.

وعلى هذا ففي مسئلة الكرسي والعرش إن كان مراد الصدوق من (اعتقادنا) اعتقاد جميع الشيعة، الواجب عليهم، فكيف يمكن أن يحصل الاعتقاد في شي ء غالباً ما يكون سبباً للاحتمال أو الظن؟! فكيف يصح عد هذا المعنى من المسائل الاعتقادية عند الشيعة؟ وإذا كان المراد هو اعتقاد الصدوق شخصياً فلانقاش فيه طبعاً ... فقد يحصل لمثله من أخبار الآحاد هذا الاعتقاد بها لوجود القرائن، لكن ذلك لايلزم منه اعتقاد الآخرين بها، ويكون القول ما قاله الشيخ المفيد عندئذ (إذا كان لمثل

ص: 38

كلمتي (الكرسي والعرش) ظاهر، فيعول على ذلك الظاهر،

وإلا فالوجه الوقوف عندها)(1).

الاعتقاد في الكرسي

قال الصدوق رحمه اللّه: اعتقادنا في الكرسي أنه وعاء جميع الخلق والعرش والسماوات والأرض وكل شي ء خلق اللّه تعالى، والكرسي في وجه آخر هو العلم، وقد سئل الصادق عليه السلام عن قول الله عز وجل: «وسع كرسيه السموات والأرض»(2) قال: هو علمه.

ولم يستدرك على الصدوق في هذا الباب.

الاعتقاد في العرش

يستفاد من كلام الصدوق أن العرش يطلق على مجموع الخلق، ويطلق على «العلم» أيضاً، وروى الشيخ الصدوق هنا حديثاً عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام قد رواه في كتاب التوحيد أيضاً، إذ سئل عليه السلام عن تفسير الآية «الرحمن على العرش استوى»(3) فقال عليه السلام: استوى من كل شي ء، فليس شي ء أقرب إليه من شي ء.

والظاهر من هذه الرواية أنه استشهد بإطلاق العرش على العلم،


1- لم نقف على نص للشيخ المفيد وإنما نقلنا مضمون الترجمة.
2- البقرة: 255
3- طه: 5

ص: 39

واستفاد منه أن نسبة جميع الأشياء إلى علم الله على سبيل الاستواء والتساوي، فليس شي ء أقرب إليه من شي ء.

ثم روى بعض الأخبار الواردة عن حملة العرش من الملائكة، وإذا لم يمكن تأويلها من الأخبار نفسها فلاننفي ظاهرها بل نقول «وما يعلم جنود ربّك إلا هو»(1) وسبحانك ما أعظم ما نرى من خلقك، وما أصغر عظيمه في جنب ما غاب عنّا من قدرتك.

ومع ذلك نقول: لايجب الاعتقاد بهذه المعاني، ولايحصل اليقين والاعتقاد لكل أحد بأخبار الآحاد.

وفي القسم الآخر من هذا الباب فسّر جملة العرش بالمعنى الثاني أي (العلم) ومن جملتهم بل أكملهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله والأئمة الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين، وكل شيعي مؤمن بولاية الأئمة الإثنى عشر عليهم السّلام يعتقد بذلك، وقد أدلى المفيد في هذا الباب بدلوه فقال (2) (العرش في اللغة هو الملك، والاستواء عليه هو الاستيلاء عليه، فأما الوصف للعالم بالعرش فهو في مجاز اللغة دون حقيقتها ... فأما العرش الذي تحمله الملائكة فهو بعض المُلك، والأحاديث التي رويت في صفة الملائكة الحاملين للعرش، أحاديث آحاد وروايات أفراد لايجوز القطع بها


1- المدّثر: 31
2- يحسن بنا أن نشير أن ما بين المعقوفين هو مقاطع من أقوال المفيد ذكرت مراعاة لترجمة الأصل لأن الكاتب لم يذكر من أقوال المفيد إلا عصارتها- المترجم.

ص: 40

ولاالعمل عليها) واللّه هو العالم.

الاعتقاد في النفوس والأرواح

ناقش المفيد الصدوقَ في بحث النفوس والأرواح، فأورد على كلام الصدوق حيث قال (اعتقادنا في النفوس أنها هي الأرواح، وأنها الخلق الأول، وأنها خلقت للبقاء، وأنها في الأرض غريبة وفي الأبدان مسجونة). فرد عليه بشدة قائلا (كلام أبي جعفر في النفس والروح على مذهب الحدس دون التحقيق، ولو اقتصر على الأخبار ولم يتعاط ذكرَ معانيها كان أسلم له من الدخول في باب يضيق عنه سلوكه). ثم ذكر المفيد لكل من النفس والروح أربعة معان لاتلاقي بينها لا في الترادف ولا في المفهوم.

ونحن نقول هنا محتملين: إنّ الظاهر أن الصدوق أراد بالنفوس هنا ذوات الناس، أي الخصوصية أو الامتياز ما بين هذا الإنسان وذاك الإنسان، وهذا هو المعنى الأول من المعاني الأربعة التي ذكرها المفيد (للنفس).

وبعبارة اخرى: إن نفس الإنسان وذاته روح، وفي قبال هذا المعنى ما قيل في نفس الحيوان (1) وذاتِه: بأنها بدنه العنصري الحي، فإذا لم نقل بأن الحيوانات لها روح بحسب طبيعتها ونفسها، أو روح أطلقها الصدوق على النفس، لاتصح على أي معنى من المعاني التي عرفها المفيد للنفس.


1- ورد التعبير في أصل المقال بصيغة الجمع وقد استغنى المترجم بصيغة المفرد الداخلة عليها لام الجنس لأنها تدل على العموم، فاعلم. المترجم.

ص: 41

فإن معنى هاتين الكلمتين غير منحصر بهذا العدد من المعاني.

فقد قال المفيد (وأما الروح فعبارة عن معان، أحدها: الحياة. والثاني: القرآن. والثالث: ملك من ملائكة اللّه تعالى. والرابع: جبرئيل عليه السلام.

مع أنه ورد في أحاديث كثيرة التعبير بالروح واريد بها روح الإنسان، والمفيد نفسُه أشار إلى أن الروح تطلق على سائر الملائكة أيضاً، وقال إضافة إلى ذلك- بصراحة-: (إن الأرواح بعد موت الأجساد على ضربين) مع أنّ هذا المعنى هو غير المعاني الأربعة التي ذكرها المفيد للروح.

وعمدة ما في نقاش المفيد وإشكاله على الصدوق في ما يلي:

أولا: في خلق الأرواح قبل الأجسام الذي يعتقد به الصدوق وفقاً لدلالة الروايات الكثيرة عليه، وكأن المفيد أنكر ذلك حتى نسبه إلى القائلين بالتناسخ والحشوية من الشيعة الذين يقولون بأنّ الذوات الفعالة أو الأرواح مخلوقة في عالم الذر، واستدل على نفي كل ذلك بقوله: (ولو كان ذلك كذلك، لكنا نعرف نحن ما كنا عليه، وإذا ذكّرنا به ذكرناه ولاخفي علينا الحال فيه).

وقد فسّر حديث الأرواح بالملائكة، واعترض على شيخه الصدوق بشدة حتى قال: (والذي صرّح به أبو جعفر في معنى النفس والروح هو قول التناسخية بعينه! من غير أن يعلم أنه قولهم، فالجناية بذلك على نفسه وعلى غيره عظيمة)(1).


1- راجع تصحيح الاعتقاد ص 68 طبعة قم.

ص: 42

وينبغي أن ننوّه هنا قائلين: إنه وإن كانت حقيقة الروح والنفس والعقل وما بطن من وجود الإنسان، كسائر كثير من الحقائق الأخرى، ما تزال مجهولة، إلا أنه ورد التصريح بخلق الأرواح قبل الأجساد في أحاديث كثيرة، ولما لم يكن للصدوق رحمه اللّه سبيل إلى ردها فقد أظهر اعتقاده بها، ولاعلاقة لهذا الاعتقاد بالتناسخ، لأن التناسخ هو عبارة عن تعلق الروح بالأجسام العنصرية المتعددة في هذه الدنيا، فهي تحلّ بعد فناء كل جسم بجسم آخر(1)، وأن تظهر الحقيقة الواحدة في صور متعددة، وأن تنال في كل مرحلة جزاء المرحلة السابقة من ثواب أو عقاب، مع أنّ خلق الأرواح قبل الأجسام، يعني تعلق الروح منحصراً بجسم عنصري واحد، وهو غير الأرواح والأجسام الأخرى روحاً وجسماً.

وهذا المعنى ممكن في حد نفسه دون أن نكون في صدد إثباته، وإن كان عند مثل الصدوق ثابتاً فقد أخذه عن رجال كان لهم حذاقة وتتبع كامل للأخبار، ولاينبغي قياسه على القول بالتناسخ! ...

والبحث الآخر: ويظهر أنّ مناقشةَ المفيد الثانيةَ للصدوق في مسألة بقاء الأرواح، حيث قال: (اعتقادنا أنها خلقت للبقاء ولم تخلق للفناء، لقول النبي صلى الله عليه و آله: (ما خلقتم للفناء بل خلقتم للبقاء، وإنما تنقلون من دار إلى دار وإنها في الأرض غريبة وفي الأبدان مسجونة) واعتقادنا أنها إذا فارقت الأبدان فهي باقية منعّمة ومنها معذّبة إلى أن يردّها اللّه عزوجل


1- ليس هذا رأي صاحب المقال بل هو زعم القائلين بالتناسخ. المترجم.

ص: 43

بقدرته إلى أبدانها).

فاستدرك المفيد على هذا التعبير بقوله (ما ذكره من أن الأنفس باقية فعبارة مذمومة ولفظ يضادّ ألفاظ القرآن، قال اللّه تعالى «كل من عليها فان ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام»(1).

وفي استدراكنا على كلام الشيخ المفيد نقول: إن بقاء الأرواح بالجملة مستفاد من آيات القرآن، وفي مقام الجمع بين هذه الآيات والآية التي تمسّك بها المفيد، يرد هذا الاحتمال، وهو أنّ الحكم أو الإخبار في قوله تعالى (كل من عليها فان) يتعلق بمخلوقات الكرة الأرضية، ولاينافي بقاء الروح بعد فناء ذات الإنسان بعد الموت، كما ورد التصريح بحياة الشهداء بعد الموت في هذه الآية «ولاتحسبنّ الذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتاً بل أحياء عند ربّهم يرزقون. فرحين بما آتاهم اللّه ...»(2) وجاء التصريح في بعض الآيات الأخرى، وكثير من الأخبار بحياتهم بعد الموت، وأن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وأمير المؤمنين عليه السلام خاطباهم بعد الموت.

مضافاً إلى ذلك أن الشيخ الأعظم أبا عبد اللّه المفيد نفسه بَيَّن الحياة بعد الموت في هذا الفصل، وأكد على ذلك في الجملة، وفي كتابه أوائل المقالات أيضاً، في مثل باب (القول في احتمال الرسل والأنبياء والأئمة، الآلام وأحوالهم بعد الممات)، أبان المفيد حياة الأنبياء والأئمة عليهم السّلام


1- الرحمن: 26، 27
2- آل عمران: 169

ص: 44

بعد الموت، واستشهد بهذه الآية «ولاتحسبن الذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتاً» واستشهد في قصة مؤمن آل فرعون بالآية (قيل ادخل الجنة قال ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربّي وجعلني من المكرمين)(1)، وأكّد على هذا المعنى أيضاً في المسألة 24 من (المسائل العكبرية)، وصرّح بحياة الروح في أبواب (القول في أحوال المكلفين) و (القول في نزول الملكين) و (القول في تنعيم أصحاب القبور) أيضاً.

وعلى هذا فالظاهر أنّ مراد المفيد هو:

أولا: أنّ أرواح الجميع في البرزخ لاتنتقل إلى حال الثواب أو العقاب، وهو في قبال جماعة يقولون: إن أرواح المؤمنين تحيا في البرزخ جميعاً، وأما من لم يمحّضوا الإيمان أو الكفر فتنعدم أرواحهم.

وثانياً: كل الأرواح تفنى وتنعدم بحكم الآية «كل من عليها فان. ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام».

وكما يستفاد من كلامه في باب (المسألة في القبر) أنها تحيا هناك، حيث قال (وهذا يدل على أنه تعالى يحيي العبد بعد موته للمسألة، ويديم حياته لنعيم إن كان يستحقه، أو لعذاب إن كان يستحقه)(2).

وبديهي أنه لاالاعتقاد بأن الأرواح تفنى، ولاالاعتقاد بأن الأرواح لاتفنى، لايصطدم بالبرهان العقلي على استحالتها، وينبغي استفادة ذلك


1- ي- س: 26
2- تصحيح الاعتقاد ص 79 ط قم.

ص: 45

من دليل النقل، ومسلك المحدثين في هذا الباب- طبعاً- هو أكثر مظنة للاعتماد، وتصريحهم بالبقاء أدعى للاطمئنان، وإن كان لايصح الاعتماد على التقليد في مثل هذه المسائل، لأنه لايكون موجباً لعلم ولا لعمل.

وأكثر الكلمات- كما يظهر- متفقة على أن الأرواح باقية إلى يوم القيامة، فإما هي في العذاب والنقمة، أو الثواب والنعمة، والحديث المعروف «القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفرات النيران» يشير إلى هذا المعنى.

وقال المفيد في باب (في ما يوصف به الموت

): «الدنيا سجن المؤمن، والقبر بيته، والجنة مأواه، والدنيا جنة الكافر، والقبر سجنه، والنار مأواه».

الاعتقاد في الموت

اعترض المفيد على الصدوق في باب الاعتقاد في الموت فقال: «ترجم الباب بالموت، وذكر غيره، وقد كان ينبغي أن يذكر حقيقة الموت، أو يترجم الباب بمآل الموت، وعاقبة الأموات»(1) إلا أن أبا جعفر عنون الباب بالاعتقاد بالموت لابحقيقة الموت حتى يرد عليه هذا الاعتراض من قِبَل المفيد، كما أن قصده في بعض الأبواب الأخرى لم يكن بيان الحقيقة، مثل باب النفوس والأرواح.


1- تصحيح الاعتقاد ص- 74 ط قم.

ص: 46

وأما التعريف الذي ذكره المفيد للحياة وهو «ما كان بها النموّ والإحساس، وتصح معها القدرة والعلم»، فليس تعريفاً لحقيقة الحياة أيضاً، بل هو تعريف لأثر الحياة وحقيقة الحياة، حسب اعتقاد بعض من الأمور المجهولة أيضاً.

وبناءً على هذا فإن تعريف الموت بأنه «ما استحال معه النمو والإحساس» ليس تعريفاً لحقيقة الموت أيضاً، نعم لو قلنا: إن الموت: هو انعدام الإحساس واستحالة النموّ والعجز عن الحركة، والحياة: هي النموّ والإحساس أنفسهما، فقد عرفنا لفظيِ الحياة والموت ظاهراً دون حقيقتهما.

وأما ما قاله أبوعبداللّه المفيد: (وليس يميت اللّه عبداً من عبيده إلا وإماتته أصلح له من بقائه، ولايحييه إلا وحياته أصلح له من موته، وكل ما يفعله اللّه تعالى بخلقه فهو أصلح لهم وأصوب في التدبير)، فمراده غير واضح عندنا، وبديهي أن (كل ما يفعله اللّه تعالى بخلقه فهو أصلح لهم وأصوب في التدبير)، فهو مسلم وثابت في نظام (الكل) وكل النظام، ولاريب فيه، والإحياء والرزق والخلق ومثل هذه الأمور التي تعطى، هي في صالح العباد جميعاً.

أما إذا كانت (إماتة العبد) المقصود منها الإماتة عند الأجل المسمى، فهذه هي الإماتة التي في صالح العبد، ولكن إذا اريد بها ما يشمل غير الأجل المسمى، أيضاً من أسباب يحصل بها الموت كالقتل ظلماً مثلا

ص: 47

فتصور هذه الإماتة في صالح العبد هو في منتهى الإشكال!.

ومما لاريب فيه، أنه قد قدر في نظام الخلق أن يحصل الموت بالأسباب العدوانية أيضاً، والمصلحة الكلية تقتضي ذلك، أما أن المصلحة الشخصية تقتضي ذلك أيضاً فهذا مشكل جداً ... وأكثر إشكالا من ذلك أن يقال أو يحكم: بأن جميع الهالكين بالحوادث المختلفة من زلازل، أو حوادث دهس، أو انهدام، أو غرق أو افتراس حيوان، كل ذلك من مصلحة الشخص، فذلك محل تأمل حتى لو قلنا: بأن اللّه يتدارك الضرر الوارد على الشخص، فإن نسبة مثل هذه الإماتة إلى اللّه تختلف عن نسبة الشرور والسيئات إليه تعالى ...

ويبدو أنه وإن كان الموت بسبب ارتكاب القتل وتأثير فعل القاتل في القتل، مقرراً في نظام كل العالم الذي هو خلق اللّه وفعله، إلا أن هذا الفعل ينسب إلى الفاعل، وإن كان الفعل صادراً من الفاعل بالقدرة التي منحها اللّه، وكان تأثيره أيضاً وفقاً للنظام الذي قرره اللّه سبحانه.

لايقال: فما تقولون إذاً في معنى قوله تعالى: «يحيي ويميت»؟.

والجواب: أن جريان الموت والحياة في الكائنات على الدوام، في جسم الإنسان، وفي خلايا الإنسان والحيوانات وجميع الموجودات الحية، حتى النباتات، فالأرض تحيا بالربيع ثم تموت في فصلي الصيف والخريف تدريجاً، واللّه يميتها ويحييها بحكم الآية الكريمة (واعلموا أن اللّه يحيي

ص: 48

الأرض بعد موتها)(1) إن آثار إماتة اللّه وإحياءه واسعة وكثيرة إلى درجة لايتم شرحها وبسطها بكتابة مجلدات كثيرة! كما أن أسرار هذا الإحياء والإماتة في غاية من الغموض والكثرة إلى درجة يجد البشر نفسه معها- على الرغم من جده واجتهاده وبحثه في كائنات هذا العالم- ما يزال في المرحلة الابتدائية من الدراسة، وفي صفها الأول.

فاللّه سبحانه المميت والمحيي وهو يميت ويحيي، ولكن الفلاح مثلا ينثر حب الحنطة أو البذور الأخرى ويحرث الأرض ويسقيها، واللّه هو الذي ينمي الزرع وهو الزارع الحقيقي كما قال سبحانه في كتابه (أفرأيتم ما تحرثون؟ أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون)؟(2)

ولكن هناك فرقاً بين من ينثر الحب ويحرث الأرض أو يغرس الشجر، وإن كان الله ينمي كل ذلك، ويهبه النضرة والخضرة، ويونعه بالأزهار والأثمار ... وبين من يهلك الحرث ويحرقه ويقطع الشجر، فهذا الأمر وإن كان بسبب القوة التي منحها اللّه إياه، وما أودعه من أثر في الآلات، لكن ذلك لايسند إلى الله تعالى ولايكون في صالح العبد دائماً.

وعلى كل حال فنحن لانسهب في الكلام، خوفاً أن ننتهي إلى الخوض في قدر اللّه المنهي عنه، ونأتمر مطيعين أمر القائل عليه السلام: إذا بلغ الكلام إلى الله فأمسكوا.


1- الحديد: 17
2- الواقعة: 64

ص: 49

المسألة في القبر

يبدو أن هذين العلمين متفقان في المسألة في القبر وإن كان الشيخ أبو عبد اللّه المفيد بين ذلك بتفصيل أكثر، وبما أن أبا عبد اللّه لم يعترض على أبي جعفر الصدوق في أمر (الرجعة)، فيبدوا أنه متفق معه، كما أنه لم يعلق على الأبواب التالية (البعث بعد الموت) و (الحوض) و (الشفاعة) و (الوعد والوعيد) و (ما يكتب على العبد).

وفي مسألة العدل جاء كلام أبي عبد اللّه ببيان وافٍ وشرح كافٍ مكملا ومتمماً لكلام أبي جعفر رحمه اللّه.

الاعتقاد في الأعراف

وفي باب (الأعراف) أيضاً لايوجد اختلاف كبير بين وجهتي نظر الصدوق والمفيد، سوى ما قاله الصدوق في الأعراف: إنه (سورٌ بين الجنة والنار)، أما المفيد فقال: قد قيل: إن الأعراف جبل بين الجنة والنار، وقيل: أيضاً إنه سورٌ بين الجنة والنار.

فالاختلاف بينهما إن وجد، فهو من حيث الإيجاز والتفصيل، وكلام المفيد في ذيل هذا الباب في منتهى الكمال إذ قال (وكل ما ذكرناه جائز في العقول وقد وردت به أخبار واللّه أعلم بالحقيقة من ذلك، إلا أن المقطوع به في جملته أن الأعراف مكان بين الجنّة والنار، يقف فيه من سميناه من حجج اللّه تعالى على خلقه، ويكون به يوم القيامة من المرجئين

ص: 50

لأمر اللّه، وما بعد ذلك فاللّه أعلم بالحال فيه)(1)

وفي (باب الصراط) كلام كل منهما قريب من الآخر بل موافق للآخر، قدس الله سرهما.

الاعتقاد في العقبات

خلاصة رأي الشيخ أبي جعفر الصدوق في العقبات على طريق المحشر أنها «اسمُ كل واحدةٍ منها اسمٌ على حدة، اسمُ فرضٍ أو أمر أو نهي، فمتى انتهى الإنسان إلى عقبة اسمها الفرض وكان قصَّر في ذلك الفرض حبس عندها وطولب بحق الله، فإن خرج منها بعمل صالح قدّمه أو برحمة تداركه، نجا منها إلى عقبة اخرى، فلايزال يدفع من عقبة إلى اخرى، فإن سلم من جميعها انتهى إلى دار البقاء، وإن لم ينجه عمل صالح ولاأدركته من الله تعالى رحمة، زلت به قدمه عن العقبة فهوى في نار جهنم، (نعوذ باللّه منها»(2).

ثم قال: (وهذه العقبات كلها على الصراط، اسم عقبة منها الولاية، يوقف جميع الخلائق عندها، فيسألون عن ولاية أمير المؤمنين والأئمة عليهم السّلام من بعده، فمن أتى بها نجا وجاز، ومن لم يأت بها بقي فهوى الخ ...).


1- التصحيح للمفيد ص 86 ط قم.
2- مقاطع من أقوال الصدوق في باب الاعتقاد في العقبات.

ص: 51

أما خلاصة رأي المفيد هي قوله (ليس المراد بها جبال في الأرض تقطع، وإنما هي الأعمال شبهت بالعقبات، وجعل الوصف لما يلحق الإنسان في تخلصه من التقصير في طاعة اللّه تعالى كالعقبة التي يجهد صعودها وقطعها)، واستشهد بقول اللّه تعالى (فلا اقتحم العقبة وما أدريك ما العقبة فكُّ رقبة)(1) وقال أمير المؤمنين عليه السلام «إن أمامكم عقبة كؤودا، ومنازل مهولة، لابدّ من الممرّ بها، والوقوف عليها، فإما برحمة من اللّه نجوتم وإما بهلكة ليس بعدها انجبار».

ونقول تعقيباً على ذلك، إن استظهار أبي عبد اللّه المفيد لطيف في حد نفسه، إلا أنه غاية ما يمكن أن يقال هنا: إن استظهار الشيخ أبي جعفر لايرجح عليه، وكل على استظهاره! لكن الاستدلال على ذلك، بالاستناد إلى ما ظنه الحشوية، وأن الحكمة لاتقتضي هذه العقبات، ولاوجه لخلق عقبات تسمى بكذا وكذا ... فذلك موقوف على إحاطة الإنسان بجميع الحِكَم من الأفعال الإلهية، والمعيار هنا هو أولا: وجود خبر معتبر وصحيح، ثانياً: الترجيح العرفي لأحد الاستظهارين. واللّه سبحانه هو العالم.

في باب الحساب والميزان

اشارة

لايظهر في هذا الباب اختلاف بين هذين العالمين العلمين أيضاً، إلا أن


1- البلد: 13

ص: 52

الشيخ أبا عبد اللّه في كتابيه تصحيح الاعتقاد و أوائل المقالات قال:

«بأن الحساب هو المقابلة بين الأعمال والجزاء عليها والمواقفة للعبد على ما فرّط»،

وقال:

«الكفار حسابهم وعقابهم على حسب الاستحقاق، ويوفّى المؤمنون أجرهم بغير حساب».

وقال: وليس هو (أي الحساب) كما ذهب العامة إليه من مقابلة الحسنات بالسيئات والموازنة بينهما، على حسب استحقاق الثواب والعقاب عليهما، إذ كان التحابط بين الأعمال غير صحيح.

وأنكر ما ذهب إليه أهل الحشو من أن في القيامة موازين كموازين الدنيا، لكل ميزان كفتان توضع الأعمال فيها، إذ الأعمال أعراض والأعراض لايصح وزنها. وبديهي أن مطالب هذه المقولة مصدرها السمع، وهي تستفاد من ظواهر القرآن والأحاديث الشريفة، ويمكن أن يكون المراد من وزن العمل هو وزن المثال، كما هو مذكور في باب تجسم الأعمال، وهي أُمور خفيت حقائقها علينا، فلايمكن إنكارها بمثل قوله: «الأعمال أعراض والأعراض لايصح وزنها».

وإجمالا: ما يمنع أن تكون هناك موازين توزن فيها الأعمال ليعلم موافقتها من مخالفتها للأوامر والنواهي، وليوزن صاحب العمل، أو العمل نفسه مع سجل العمل وصحائف الأعمال، وقد وردت عندنا في باب تجسم الأعمال روايات تقول: بتجسم العمل الذي يقول: إنه عرض، فيبدو في صورة حسنة جميلة، وإليه أشارت الآية الكريمة (فمن يعمل

ص: 53

مثقال ذرة خيراً يره)(1).

ويحتمل أن يكون المراد منه أن العمل نفسه يحفظ، كما يلاحظ اليوم في التلفاز، مع أن صاحب العمل ترك مكانه مثلا، أو مات.

ويحتمل أن يكون المراد منه سجل الأعمال، أو يكون المراد جزاء العمل والثواب، أو العقاب عليه. فكل هذه الأمور محتملة، ولاينبغي أن يقال: إن الصوت لايسمع في ذلك العالم، مع أنه قد أمكن سمعه في هذا العالم.

والخطأ الذي وقع فيه بعض المتكلمين هو أن هذه الأمور التي أخبر عنها الوحي والنبى صلى الله عليه و آله، جعلوها محلًا للمناقشة والرفض والقبول بسلسلة من المعلومات الناقصة عندهم، ثم أرادوا أن يزنوا الأشياء الضخمة الهائلة، بميزان توزن فيه الأشياء اليسيرة، شأن من يريد أن يَزِن الكرات والمجرات بميزان أعده للبطيخ مثلا، أو العكس من ذلك، كمن يَزِن الذهب بميزان توزن فيه الصخور والجبال!!

وعلى كل حال فإن الصدوق والمفيد كليهما متفقان على أن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله والأئمة من أهل بيته عليهم السّلام هم المتولون أمر الحساب.

الاعتقاد في الجنة والنار

وجهتا نظر هذين العلمين متقاربتان في كتابيهما، في ما يتعلق بالجنة


1- الزلزال: 7

ص: 54

والنار، وفي كل من الكتابين تفاصيل لم يذكر بعضها في الكتاب الآخر، فما هو ثابت من هذه التفاصيل بموجب الآيات والأخبار الصحيحة فهو حق وإن لم يجب الاعتقاد به، لكن إنكاره بل الشك فيه بعد الاطلاع على موارده ومصادره غير جائز.

والأمر الذي لايوافق الشيخ المفيد فيه أبا جعفر الصدوق هو أن الصدوق جعل أهل الجنة أنواعاً (على مراتب منهم المتنعمون بتقديس اللّه وتسبيحه وتكبيره في جملة ملائكته الخ ...)، ورد ذلك المفيد بقوله: (وقول من زعم أن في الجنة بشراً يلتذ بالتسبيح والتقديس من دون الأكل والشرب، قول شاذ عن دين الإسلام، وهو مأخوذ من مذهب النصارى الذين زعموا أن المطيعين في الدنيا يصيرون في الجنة ملائكة لايطعمون ولايشربون ولاينكحون) ثم عقّب على ذلك مستشهداً بآيات من الكتاب العزيز كقوله تعالى (اكلها دائم وظلّها تلك عقبى الذين اتّقوا)(1) وقوله تعالى (إنّ أصحاب الجنّة اليوم في شغل فاكهون. هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون)(2) وغير ذلك من الآيات ... ومثل هذه الآيات كثير في القرآن، وما قاله المفيد أوفق بمدلول هذه الآيات.

ولاريب أن التنعم بهذه النعم غير مناف للالتذاذ بحصول القرب الإلهي، وبلوغ الثواب ومجالسة الأنبياء والأئمة الطاهرين والمقربين ... واللّه أعلم.


1- الرعد: 35
2- ي- س: 55، 56

ص: 55

الاعتقاد في كيفية نزول الوحي

ما قاله الشيخ أبو عبد اللّه المفيد في حقيقة الوحي ونزوله، أكثر قبولا ومتانةً مما قاله الشيخ أبو جعفر الصدوق

فالوحي والعلاقة القائمة بين اللّه سبحانه والمصطفيْن من عباده لحمل رسالته إلى الناس حقيقةٌ إظهارُ العجز عن إدراكها، والاكتفاء بمعرفتها عن طريق آثارها، خير من إظهار وجهة النظر في حقيقتها، فالأمور التي تعرف بالآثار فحسب، أو تعرف بإخبار الأنبياء، كثيرة، ولايلزم أن تكون منحصرة بالوحي ... وقد عرّف الشيخ المفيد الوحي قائلًا (قد يطلق على كل شي ء قصد به إفهام المخاطب على السرّ له عن غيره، والتخصيص له به دون سواه).

الإعتقاد في نزول القرآن

رأي الشيخ أبي عبد اللّه المفيد في هذا الباب، أرجح وأقوى من رأي شيخه الصدوق وملخص ما قاله الشيخ المفيد: أن نزول القرآن جملة في بدء البعثة مع وجود آيات كقوله تعالى (قد سمع اللّه)(1)، أو قوله (لقد سمع اللّه)(2)، أو الآيات النازلة في مناسبات خاصة ونزولها قبل تلك المناسبات، لاينطبق معانيها، ولو كانت هناك رواية صحيحة معتبرة،


1- المجادلة: 1
2- آل عمران: 181

ص: 56

فينبغي حملها على معنى يوافق هذه الآيات، لأن حمل الحديث على خلاف الظاهر أولى وأهون من حمل القرآن على خلاف الظاهر.

الاعتقاد في مَبْلَغ القرآن

لم يضف الشيخ أبو عبد اللّه المفيد في هذا الباب شيئاً على ما قاله أبوجعفر الصدوق ويبدو أنه متفق معه في أن القرآن النازل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله، هو هذا الذي (ما بين الدفتين)، وأنه وافقه في سائر الأمور الأخرى هنا.

الإعتقاد في الأنبياء والرسل والحجج والملائكة

اتفق هذان العلمان الجليلان اتفاقاً تاماً في الاعتقاد بالأنبياء والرسل والحجج والملائكة، وفي عدد الأنبياء والأوصياء والأئمة الطاهرين عليهم السّلام الى خاتم الأئمة ومنقذ الأمة مولانا وسيدنا المهدي المنتظر أرواح العالمين له الفداء، ولاشبهة ولاكلام في ذلك ...

الإعتقاد في العصمة

قال أبو جعفر الصدوق في باب الاعتقاد بالعصمة:

«اعتقادنا في الأنبياء والرسل والأئمة والملائكة أنهم معصومون، مطهرون من كل دنس، وأنهم لايذنبون ذنباً، لاصغيراً ولاكبيراً، ولايعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ومن نفى عنهم العصمة في شي ء من أحوالهم

ص: 57

فقد جهلهم. واعتقادنا فيهم أنهم معصومون موصوفون بالكمال والتمام والعلم من أوائل امورهم وأواخرها، لايوصفون في شي ء من أحوالهم بنقص ولاعصيان ولاجهل»(1).

لكن يستفاد من كلام أبي عبد اللّه المفيد أن الأنبياء جميعهم والأئمة الطاهرين معصومون وموصوفون بالكمال حال النبوة و الإمامة، إذ قال (والأنبياء والأئمة من بعدهم معصومون في حال نبوتهم وإمامتهم، من الكبائر كلها والصغائر، والعقل يجوز عليهم ترك مندوب إليه على غير التعمّد للتقصير والعصيان، ولايجوز عليهم ترك مفترض، لأن نبينا صلى الله عليه و آله والأئمة عليهم السّلام من بعده كانوا سالمين من ترك المندوب والمفترض قبل حال إمامتهم وبعدها)(2).

ومع أنه صرّح بأنهم «لم يكن لهم قبل أحوال التكليف أحوال نقص وجهل، فإنهم يجرون مجرى عيسى ويحيى في حصول الكمال لهم مع صغر السن ...)، وقال (هذا أمر تجوزه العقول ولاتنكره، وليس إلى تكذيب الأخبار سبيل) إلا أنه قال (والوجه أن نقطع على كمالهم عليهم السّلام في العلم والعصمة في أحوال النبوة والإمامة، ونتوقف في ما قبل ذلك وهل كانت أحوال نبوة وإمامة أم لا؟ ونقطع على أن العصمة لازمة منذ أن أكمل اللّه تعالى عقولهم إلى أن قبضهم ...».


1- اعتقادنا ص- 7- ط قم.
2- تصحيح الاعتقاد، ص 107.

ص: 58

وينبغي أن ننوّه موضحين بأن هذا الكلام مخالف لضرورة المذهب والأحاديث المتواترة، فالشيعة متفقون على أن النبي صلى الله عليه و آله قبل بعثته، والأئمة عليهم السّلام قبل تكليفهم بالقيام بمسؤولية الإمامة، كانوا في مقام العصمة وكمال الصفات الإنسانية. وما ذكره قدس سره لاينسجم، وقداسة مقام خاتم الأنبياء الرفيعِ صلى الله عليه و آله الذي وصفه أمير المؤمنين عليه السلام بما كان عليه قبل بعثته.

وفي اعتقاد كل شيعي ومن جملتهم أبو عبد اللّه المفيد نفسه أن أميرالمؤمنين عليه السّلام كان معصوماً في عصر النبي صلى الله عليه و آله، وإن كانت مسؤولية الإمامة مناطة بشخص رسول الله صلى الله عليه و آله يومئذ، وكان أميرالمؤمنين عليه السلام مؤهلا لكل ما يستلزم الإمامة معصوماً.

وكذلك الحال بالنسبة للحسن عليه السلام فقد كان في عهد أبيه معصوماً مؤهلا لمستلزمات الإمامة. ومثله أخوه الحسين عليه السلام في عهد أبيه أميرالمؤمنين عليه السلام وأخيه الحسن عليه السلام، حيث كان معصوماً مؤهلا لخصائص الإمامة ومستلزماتها و هكذا سائر الأئمة عليهم السّلام كانوا معصومين مؤهلين للإمامة قبل إمامتهم ...

والأحاديث الدالة على هذه العقيدة تفوق حد التواتر، مضافا الى أنه تترتب عقلا على عدم عصمة النبي والإمام قبل النبوة والإمامة نفس المفاسد التي تترتب في حال النبوة والإمامة لو قيل بعدم عصمتهم.

ولايجوز شرعاً ولاعقلا التفكيك أو الفصل بين هاتين الحالتين وقبول

ص: 59

النبوة وإمامة أصحاب السوابق السيئة، وليس من حقنا أن نُسي ء إلى ساحة المفيد القدسية، لكن الشيخ الصدوق لو قدّر له أن يواجهه في عالم مّا من العوالم وعاتبه على كلماته، لقال له: سعة اطلاعك على العلوم الإسلامية ومعارف أهل البيت، لكنك وقعت في هذا الخطأ!

وعلى كل حال فنحن نقر بعظمة هذين العلمين، ونقول: العصمة عن الخطأ لمن أعطاهم اللّه تعالى هذه الحالة القدسية من أنبيائه والأئمة الطاهرين والملائكة عليهم السّلام و الجواد قد يكبوا.

الاعتقاد في نفي الغلو والتفويض

لايوجد اختلاف جوهري في هذا البحث بين هذين العلمين، في نفي الغلو والتفويض، لكن تدارك الشيخ المفيد البحث السابق، وأورد على الصدوق في قوله

(علامة المفوضة والغلاة وأصنافهم، نسبتهم إلى مشايخهم وعلمائهم، القول بالتقصير).

فقال المفيد: ليس نسبة هؤلاء القوم إلى التقصير علامةً على غلو الناس، الخ ... ثم قال: وقد سمعنا حكاية ظاهرةً عن أبي جعفر محمد بن الحسن بن الوليد رحمه اللّه، لم نجد لها رافعاً في التقصير، وهي ما حكي عنه أنه قال (أول درجة في الغلو، نفي السهو عن النبي والإمام) ثم قال المفيد (فإن صحت هذه الحكاية عنه فهو مقصر مع أنه من علماء القميين ومشيختهم).

وعقّب ذلك بقوله (وقد وجدنا جماعةً وردوا إلينا من قم يقصرون

ص: 60

تقصيراً ظاهرا في الدين، وينزلون الأئمة عليهم السّلام عن مراتبهم ويزعمون أنهم كانوا لايعرفون كثيراً من الأحكام الدينية، حتى ينكت في قلوبهم، ورأينا من يقول: إنهم ملتجئون في حكم الشريعة إلى الرأي والظنون، ويدّعون مع ذلك أنهم من العلماء، وهذا هو التقصير الذي لاشبهة فيه).

ثم قال: ويكفي في علامة الغلو نفي القائل به عن الأئمة، سمات الحدوث، وحكمه لهم بالإلهية والقدم إلى أن قال: ولايحتاج مع ذلك إلى الحكم عليهم وتحقيق أمرهم بما جعله أبو جعفر (الصدوق سمة للغلو على كل حال)(1).

الإعتقاد في الظالمين

لم يستدرك الشيخ المفيد في هذا الباب، على الشيخ أبي جعفر الصدوق ويظهر أن وجهتي نظرهما متحدتان.

الإعتقاد في التقية

في فصل التقية التي تعرض لها أبو جعفر بإجمال، فصّل الشيخ أبو عبد اللّه فيها، وكما قال الشيخ المفيد: فإنه لايجوز كتمان الحق بصورة مطلقة، والصدوق وإن لم يصرّح بذلك إلّا أن مراده هذا المعنى نفسه أيضاً.

وبديهي إذالم يكن موجب للتقية ولاضرورة في الأمر، ولايجوز حينئذ


1- تصحيح الاعتقاد ص 114.

ص: 61

إنكار الحق وترك إظهاره، وجميع أدلة التقية في القرآن والأحاديث تدل على هذا التفصيل، ومعنى ما يقال: إن التقية ثابتة والعمل بها واجب حتى ظهور المهدي أرواحنا له الفداء، هو أنه قد تحصل ضرورات أو أخطار قبل ظهور المهدي سلام اللّه عليه توجب التقية أو تجيزها وذلك ممكن، لكن بعد ظهوره حيث يظهر اللّه الإسلام والإيمان على الدين كله وينتشر ذلك في العالم وبحكم قوله تعالى (يبدل اللّه المؤمنين من بعد خوفهم أمناً)(1) فلاوجود للخوف حينئذ، فلايبقى موضوع للتقية.

الإعتقاد في آباء النبي صلى الله عليه و آله

اتفق كلا العلمين على أن آباء النبي صلى الله عليه و آله موحدين مؤمنين، وكما قال المفيد: إجماع عصابة الحق على هذا الاعتقاد، وكذلك اتفقا على إيمان أبي طالب وآمنة ام النبي صلى الله عليه و آله وإن لم يصرح الشيخ المفيد بذلك.

الإعتقاد في العلوية

إختلف نظر هذين العالمين العلمين الجليلين في تفسير الآية الكريمة (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودّة في القربى)(2) حيث فسّر الصدوق كلمة (إلا) في الآية بمعنى الإستثناء، لكن المفيد جعل كلمة (إلا) بمعنى لكن،


1- النور: 55
2- الشورى: 23

ص: 62

فيكون مفاد الصدوق بناءً على هذا أن النبي صلى الله عليه و آله قال لأمته: لاأطلب منكم أجراً غير مودة القربى، أو قال على مبنى الشيخ المفيد: إني لاأطلب منكم أجراً، وإنما أطلب منكم أو أُوجب عليكم المودة في القربى.

وقد قال المفيد: لايصح القول بأن اللّه تعالى جعل أجر نبيه مودة أهل بيته عليه السلام ولا أنه جعل ذلك من أجره عليه السلام، لأن أجر النبي صلى الله عليه و آله في التقرب إلى اللّه تعالى هو الثواب الدائم وهو مستحق على اللّه تعالى في عدله وجوده وكرمه، وليس المستحق على الأعمال يتعلق بالعباد لأن العمل يجب أن يكون للّه تعالى خالصاً، وما كان للّه فالأجر فيه على اللّه تعالى دون غيره. هذا مع أن اللّه تعالى يقول (يا قوم لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على الذي فطرني)(1) فلو كان الأجر على ما ظنه أبو جعفر في معنى الآية لتناقض القرآن ثم قال فيكون قوله (قل لا أسألكم عليه أجراً) كلاماً تاماً، ويكون قوله (إلا المودة في القربى) كلاماً مبتدأ إلخ ...(2)

لكن الظاهر أن الجملتين مسوقتان للترغيب في (المودة في القربى) وليست الجملة الأولى (لا أسألكم عليه أجراً) لعدم سؤال الأجر، بل مقدمة وتمهيد لبيان مفاد الجملة الثانية، فهي بمعنى أني لاأُريد منكم أجراً قبال حق الرسالة العظيم عليكم سوى المودة في القربى، ولما كانت


1- هود: 51
2- تصحيح الإعتقاد ص 118

ص: 63

الجملتان مترابطتين فلاتهافت بينهما.

وأما (قول المفيد) بأن الرسالة لكونها عملا للّه فأجرها على اللّه، فجوابه أنه لازم أداء هذا العمل للّه هو إثبات الحق لرسول اللّه على أُمته، والأمة مسؤولة أيضاً أن تؤدي ما عليها من الحق، لذا فقد كلّفت هذه الأمة عرفاً وترغيباً لأداء حق الرسالة بمودة ذوي القربى من أهل بيت محمد صلوات اللّه عليهم أجمعين ...

وعلى كل حال، فينبغي أن يعالج هذا الكلام برُمّته في التفسير، لكن ما ينبغي الإشارة إليه وبناءً على التفسيرين ووفقاً لما ورد في الروايات الكثيرة فإن المراد بالقربى هو قربى رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وقد اتفقت وجهتا نظر الصدوق والمفيد على ذلك.

الإعتقاد في الأخبار المفسّرة والمجملة

لايوجد في هذا الباب نقاش بين الصدوق والمفيد، إلا أن الظاهر اتفاقهما على أن الأخبار المفسرة حاكمة على الأخبارالمجملة.

الإعتقاد في الحظر والإباحة

قال الصدوق في هذا الباب (الأشياء كلها مطلقة حتى يرد في شي ء منها نهي) وخلاصة جواب الشيخ المفيد المتين: أنه ليست الأشياء كلها مطلقة ومحكومة بالإباحة فالأشياء في أحكام العقول على ضربين:

أحدهما: معلوم حظره بالعقل ... كالظلم والسفه والعبث. والضرب

ص: 64

الآخر: وهو ماليس للعقل فيها حكم، فهذه القاعدة جارية في هذا الضرب.

ولكن يمكن أن يقال: إن رأي الصدوق يوافق هذا الرأي أيضاً وتعبيره إنما هو بلحاظ أن كل ما قبّحه العقل ووبّخ عليه فاعلَه فقد نهى عنه الشارع، لذا بوسعنا أن نقول: الناس أحرار في جميع الأمور، إلا ما ورد النهي عنه.

الإعتقاد في الأخبار الواردة في الطب

في باب (الأخبار الواردة في الطب) أيد الشيخ أبو عبد اللّه شيخه أبا جعفر الصدوق وأضاف قسماً آخر على هذه الأحاديث التي ذكرها الشيخ أبوجعفر ... غاية ما في الأمر أن الشيخ المفيد قال: الطب صحيح والعلم به ثابت وطريقه الوحي وإنما أخذه العلماء عن الأنبياء ... إلخ.

ولكن الظاهر أنه وإن لم يكن هناك سبيل إلى نفي أن (الطب وتعلّمه إنما هو من تلقين الأنبياء) إلا أن القول بأن علم الطب كله من السماء مخالف للتجربة والحس. فالبشر وقف على الطب الذي هو واحد من العلوم الكثيرة والصناعات التي تعلّمها بذكائه واستعداده وتجاربه، وإن قلنا بجواز الإقتباس في بعض موارده وأقسامه من الأنبياء والوحي في ما مضى، أو في ما سيأتي من الزمن.

ص: 65

الإعتقاد في الحديثين المختلفين

لقد أشبع هذا الموضوع بحثاً وتفصيلا في باب التعادل والترجيح في الأصول، لذا فقد ارتأينا أن لانلج هذا البحث الذي تعرض له هذان العلمان الجليلان بل نحيل تحقيق مطلبه إلى مراجعة أصول الفقه.

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربِّ العالمين

والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين واللعن على أعدائهم أجمعين

7 جمادى الأولى 1413 لطف اللّه الصافي

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.